من يتوافق مع (أخلاقيات العوام) التي تثور بالمظاهرات ضد جريدة تشوه الإسلام برسم كاريكاتوري، ولا تثور بالمظاهرات ضد داعش الذي يشوه الإسلام بذبح البشر واستعبادهم، فلا يواصل قراءة المقال الذي أعتبرُه امتدادا لنفس الموقف الذي في مقال (قضية الشعب أكبر من المسجد) الذي صدر على صفحات هذه الجريدة في 31 يوليو 2017، فالقضية تتقاطع فيها أربعة أبعاد (إثنية/‏عرقية، إسلام، مسيحية، يهودية)، نحاول الحديث عن هذه القضية مستثمرين هذه الأبعاد الأربعة للنظر بشمولية قدر الإمكان، ومن يحاول أن يبني ترافعه عن القضية الفلسطينية دون مراعاة هذه الأبعاد الأربعة فهو صانع زيف تاريخي، أو داعية تعصب طائفي أو عرقي، وما أكثرهم طوال التاريخ الإنساني، والتاريخ الفلسطيني ليس استثناء، فاليهود عرفوا الظلم والضياع منذ فرعون والتيه وصولاً للهولوكوست، ثم جاءت الحركة الصهيونية التي ما زال بعض اليهود يقيم المظاهرات ضدها، فظلمتهم أكثر عندما صنعت مبررا واقعيا لكراهية اليهود من خلال جرائم الصهيونية وعنصريتها، ومن العقلانية والاتزان التفريق بين اليهودية كدين (أهل الكتاب) والصهيونية كحركة عنصرية مقيتة، بل إن في زمن عبدالرحمن الكواكبي (1845 وحتى 1902) يتضح هذا الشعور الذي كان يحمله العربي المسلم تجاه اليهود (قبل الصهيونية)، فيحكي عن التعصب عند المسلمين والمسيحيين، وأن مبتدأه من عند المسيحيين عبر حروبهم الصليبية فيقول: (وناهيك لدالة الفظائع التي ارتكبوها بالاشتراك مع متطوعي أوروبا حتى مع اليهود الأبرياء منذ عام 1099)، ووصف اليهود أنهم (الأبرياء) (راجع عبدالرحمن الكواكبي الأعمال الكاملة ص 521 ط1 دار الشروق)، ولا نستغرب هذا، فقد رفع أعيان حلب ورؤساؤها شكراً للشريف يوضح (الفسيفساء المعقدة لشمال الجزيرة العربية)، وكان من ضمن الموقعين (الحاخام الأول للإسرائيليين حزقيا شبتاي)، إضافة طبعا إلى (المفتي محمد العبيسي ومطران الروم الأرثوذكس رافائيل، وقاضي حلب محمد الزرقاء ووكيل مطران الأرمن الكاثوليك النائب الأسقفي يوحنا بليط، ووكيل مطران الروم الكاثوليك ديمتري فيض الله، ووكيل مطران السريان الكاثوليك القس يوسف رباط، ووكيل البروتستان هارون سراجيان، ورئيس اللاتين الأب غريغوريوس جوبي، ومرخص الأرمن خجادور، ووكيل مطران الموارنة القس يوسف سبع، ووكيل الكلدان الخوري ميخائيل شعيا) وغيرهم. راجع جريدة القبلة العدد 242 السنة الثالثة، الخميس 22 ربيع الأول 1337.

إذاً فاليهود العرب جزء من القضية، وبسبب غفلة تاريخية خسرناهم كحلفاء حقيقيين لنا بحكم عروبتهم، بينما إيران التي تضع من ضمن أيامها (يوم القدس) كبروباجندا، نجدها تستثمر اللوبي اليهودي الإيراني خير استثمار في أمريكا، وقد أورد مشعل السديري في الشرق الأوسط ما نصه: (تجاوز عدد يهود إيران في إسرائيل 200 ألف يهودي يتلقون تعاليمهم من مرجعهم في إيران الحاخام الأكبر يديديا شوفط، وإن كنائس اليهود في طهران وحدها تجاوزت 200 معبد يهودي.. وتستفيد إيران من يهودها في أمريكا عبر اللوبي اليهودي بالضغط على الإدارة الأمريكية لمنع ضرب إيران، وإن عدد اليهود الأمريكيين في الولايات المتحدة (12) ألف يهودي من إيران، يشكلون رأس الحربة في اللوبي اليهودي، ومنهم أعضاء كثر في مجلسي الكونجرس: النواب والشيوخ...) إلخ المقال عن عمق العلاقات الإيرانية اليهودية، وعندما عرفنا ذلك قرأه بعضنا من خلال (نظرية المؤامرة) التي تجيد لطم خدها، مبررة عجزها دون الالتفات لما بأيدينا من مكاسب سياسية يمكن استثمارها في كل اتجاه، خصوصا من خلال أبناء اليهود العرب الذين كانوا في أنحاء الوطن العربي وما زال بعضهم حتى الآن. المسيحيون العرب أيضا جزء من القضية الفلسطينية، إضافة إلى ما حفظه التاريخ من صلابة موقف البابا شنودة الثالث بطريرك الأقباط الأرثوذكس لأجل فلسطين.

بقيت الإشارة إلى سؤال تهكمي ينسب إلى وزير خارجية أمريكي وجهه لمن قال له: إسرائيل حصلت على أرضها بطريقين الشراء والاحتلال، فسأله الوزير: هل هناك طريقة ثالثة لامتلاك أي أرض في الدنيا؟ إن صحت هذه الحكاية فهي تشير ضمنا إلى واقع وجودنا التاريخي على الأرض، فهل من حق الكلدانيين والأقباط والأمازيغ والكنعانيين والنبط أن يطالبوا بخروج كل الأعراق الأخرى من أراضيهم، خصوصا العرق العربي الذي فرض لسانه وديانته؟ أم يتم حل المشكلة باستعادة مشروع (أنطون سعادة) في الهلال الخصيب السياسي، وغيرها من مشاريع لتقليب الفتن الطائفية والعرقية التي جعلت إيران/‏الفرس وتركيا/‏ السلاجقة تتناوشان بسط اليد على ست دول عربية (العراق، سورية، ليبيا، اليمن، قطر، لبنان)، فكيف لو فتحنا ملف الأحواز العربية في إيران، أو ملف الأكراد وتاريخهم البائس للاستقلال الذي يمس كيان أربع دول (إيران، تركيا، العراق، سورية)، فكيف نتجاهل قرابة مليارين من المسيحيين حول العالم تعني لهم القدس ما تعنيه للمسلمين واليهود، فعن أي مثاليات يحكي المتنطعون.

يقول صديقي: فيتنام قاومت أمريكا حتى حققت انتصارها، والجزائر ناضلت بمليون شهيد حتى حققت انتصارها، فما بال الفلسطينيين يريدون نزع شوكهم بيد غيرهم، قلت له: فلسطين كيف تقاوم ضد نفسها؟ إن حللت جيناتها الوراثية فستجد مصر والأردن وسورية ولبنان واليهود والمسيحيين والمسلمين، إنها حائط المبكى، إنها المسجد الأقصى، إنها كنيسة القيامة فحتى هذه الكنيسة اتفقت الطوائف المسيحية الثلاث أن تكون مفاتيحها بيد عائلة مقدسية مسلمة، وعائلة مسلمة أخرى تقوم بعمل (بواب الكنيسة) لفتحها وغلقها!!، هذه هي الأرض التي ترى العرب -مسلمين ومسيحيين- فيها يعملون أو سبق أن عملوا أعضاء في الكنيست الإسرائيلي وقواته المسلحة، وترى اليهودي فيها يتظاهر ضد الصهيونية، هذه هي الأرض (المقدسة) سواءً اعتبرتها جزءا من شرق الأردن، أو جزءا من سورية الكبرى، أو جزءا من غرب مصر، أو الأراضي المنقسمة ما بين قيادة في غزة وقيادة في الضفة، أو خرجت من الخلاف العربي التاريخي قبل الانتداب وبعده، قبل الهزائم وبعدها، قبل أوسلو وبعدها، وسميتها (إسرائيل)، فقد حوت في بطنها أجداث أبناء الديانات والأعراق المختلفة، فمن يقرر الواقع على هذه الأرض؟ الثابت السياسي المنتصر لسبعة عقود أم الخلاف والفرقة التاريخية حتى الآن.

وهنا يأتي السؤال المباشر: هل السعودية تؤمن بالسلام مع إسرائيل؟ الإجابة الواضحة -كما أفهمها- المملكة العربية السعودية رسالتها العالمية رسالة سلام، ولهذا فقد قدمت اتفاقيتها للسلام منذ ثمانينات القرن الماضي وما زالت تمد يدها بالسلام (العادل) وفق إطار يراعي المصالح الفلسطينية والعربية، والملك فيصل كان يألم صادقا لأجل فلسطين وكان عدوا حقيقيا للصهيونية، لكن دون مزايدة أو عنتريات تهلك الحرث والنسل في نكسات وهزائم كسرت الروح العربية والإسلامية في خطب ترفع قبضتها وعيداً، يهتف بها قراصنة الشعوب على رؤوس أتباعهم طوال عقود، باسم القومية حينا، وباسم الإسلام الإخواني الخميني حيناً آخر، فكيف نقبل المزايدة الفجة من غير الفلسطيني على مواقف المناضل السياسي ياسر عرفات التي وقعها، وسيندم المتصلبون في تفريطهم بما رآه مكسباً، كما ندم ياسر نفسه على تفريطه فيما وصل إليه المحارب المنتصر أنور السادات، وما زال الحليب ينسكب وتشربه الشياطين ولا تريد له التوقف، يكفي نواح الثكالى في المخيمات الفلسطينية القائمة حتى الآن، فكيف غطى عليه صوت النائحة المستأجرة؟! تبكي نهاراً مواويل وعتاباً كأنها أم الشتات الفلسطيني، وتتمايل ليلا رقصاً وغناء بالعبرية كأنها عشيقة إيدي كوهين.