يتضح لنا من خلال تعريف عادل مصطفى أن فلسفة التأويل عند اليونان لم ترتق إلى الممارسة المنهجية والعقلانية، بقدر ما هي معتقدات غريبة مشبعة بالخرافات، وذات طابع طقسي يقوم على تعليم وطقوس غريبة لها أبعاد باطنية لا يمكن أن ترتقي لمستوى الفلسفة العقلية.
لذلك البحث عن أصول لعلم التأويل المنهجي في الفكر اليوناني يعد عبثا لا طائل وراءه. وظل التفكير التأويلي فكرا غير خاضع لأي منهجية علمية، ولم يظهر علم التأويل ويتمخض عن ممارسة منهجية إلا مع علماء الفقه الإسلامي، وتحديدا في دراستهم لأسماء الله وصفاته، تلك الدراسات التي تعتبر أعمق الدراسات الإنسانية في مجال التأويل.
كانت دراسة الأسماء والصفات هي المحرض الأبرز للاهتمام بالتأويل، ومن خلالها تشكَّل التأويل بصفته علما وفلسفة عقلية رفيعة المستوى، بعيدا عن الفهم الباطني للنصوص القائم على الإلهام. وهذه الدراسات كانت مدفوعة بدافع تعبدي اتباعا للآية الكريمة: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}. يقول أبو حامد الغزالي في كتابه منهاج العابدين: «لتحصل لك العبادة وتسلم، فإنك أولا يجب عليك أن تعرف المعبود ثم تعبده، وكيف تعبد من لا تعرفه بأسمائه وصفات ذاته، وما يجب له وما يستحيل في نعته؟ فربما تعتقد فيه وفي صفاته شيئا -والعياذ بالله- مما يخالف الحق، فتكون عبادتك هباء منثورا».
ويقول القرطبي في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى متناولا نفس القضية: «والدعاء بها قبل معرفتها بأعيانها محال، وتحضيض الشرع على إحصائها وأمره بالدعاء بها، وهو لم يبينها ولم يحصها من تكليف ما لا يطاق، ولم يرد به الشرع. فوجب تطلبها والوقوف عليها، حتى ندعو بها».
نستطيع تلخيص منهج السلف في إثبات الصفات حول أربع نقاط، وهي إثبات الصفات الواردة في الكتاب والسنة دون تعطيل أو تكييف أو تشبيه، وعدم رد شيء منها أو تأويله، عدم تحكيم العقل في أمور العقيدة الغيبية، وأخيرا اعتقاد مخالفة صفات الله لصفات خلقه.
وقد وضع لها أنس بن مالك قاعدة عامة في تفسيره للاستواء في الآية الكريمة {ثم استوى على العرش} بقوله: «الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة»، وهذه القواعد العامة لفهم الأسماء والصفات لم تكن اعتباطية أو تعسفية، لكنها نتاج تبحر وتعمق كبيرين في النص القرآني، سبقت هذه القواعد تأسيس علوم أخرى وصناعة نظريات مستقلة ومناهج أصيلة، منها تأسيس علوم كعلم التأريخ وعلم السير والتراجم وعلم النحو وعلم البلاغة وعلم العروض، وكلها تتمحور حول النص القرآني، فقد كان الفقهاء يريدون صيانة الوجود الخاص والسياق الاجتماعي للنص القرآني وحمايته من عبث التقول عليه ومن هرطقة إعادة صياغته.
والأهم من كل ذلك هو معرفة حدود العقل البشري، وإعادته لمكانته الطبيعية وعدم إقحامه في أمور خارج قدراته، ولعلنا هنا نتطرق لفلسفة إيمانويل كانط حول نقد العقل المحض، وتتلخص أفكار كانط وقطيعته مع العقل الميتافيزيقي من خلال تقسيمه الظواهر إلى قسمين: ظواهر يمكن للعقل البشري أن يدركها، وهي الظواهر المادية والحسية، وقسم خارج عن مقدرة العقل على إدراكها، وهي ظواهر ما وراء الطبيعة. هذه الظواهر الميتافيزيقية -حسب كانط- يعجز الإنسان عن إدراكها من خلال العقل ووسائله ومناهجه. وهذا ما طبقه الفقهاء حرفيا في تعاملهم مع قضية الأسماء والصفات، بعد أن وضعوا حدودا واضحة للعقل وحدودا واضحة للإيمان، لذا رفضوا تأويل وتحكيم العقل في مسائل الأسماء والصفات، لأنها حقائق غيبية لا يمكن التوصل إليها عن طريق العقل البشري، لذلك فضلوا أخذ النصوص على ظاهرها دون تأويل، وكانت عودتهم إلى المجتمع النبوي أو من يسمون «بالسلف» والتعرف على منهجهم في فهم الأسماء والصفات، فيه جانب لا بأس به من الموضوعية والعقلانية، نظرا لأن أفراد هذا المجتمع (السلف) عاصروا حقبة نزول الوحي وفهموه مباشرة من الرسول، صلى الله عليه وسلم، والنص القرآني نزل بلسانهم، وهذا ما يجعل فهمهم للنص القرآني يختلف عن فهم أي مجتمع آخر.
كانت مسألة فهم الأسماء والصفات شائكة في الفكر الإسلامي، والجدل حولها بين المدارس الفقهية أخذ طابعا صراعيا، خلق نشاطا فكريا وشهد نشوء أفكار ودراسات في غاية العمق، تعد من الناحية المعرفية والتاريخية الولادة الحقيقية لعلم التأويل وما يندرج تحته من فلسفات ومناهج ومصطلحات. فدراسة الأسماء والصفات عكست معرفة كبيرة بقوانين التأويل وحدود العقل وقواعد اللغة وأساليبها.