لعله من حسن حظ الصحابة والتابعين والقرون التي جاءت بعدهم أنهم لم يعايشوا الجماعات الدينية كما هي حال حظنا النكد في العصر الحديث، وإلا لماتوا من القهر والغم والكمد، ذلك أن المنتمين لهذه الجماعات لا يعترفون بحق الآخرين في التعامل مع الدنيا، في حين أنهم يتمتعون بها جيدا. فكل شيء غير موجود في الماضي لا يجوز استعماله، وكل موسيقى وصوت غناء حرام، وبرج القاهرة فيه ما فيه من إشارات جنسية يعف اللسان عن ذكرها، والرسم والنحت حرام... إلخ، حتى أحالوا حياة الناس جحيما وبفتاوى غريبة دفعت وزراء الأوقاف في بعض البلاد العربية إلى التدخل لمنع انتشارها. حياة سقيمة بالية وعقلية بائدة رافضة لحقائق الدنيا قديما وحديثا، جاعلة جمال الدنيا قبحا، وزينة الحياة آلاماً بتذكير الناس ليل نهار بالنار وغضب الجبار، وكأن الله لم يقل في كتابه العزيز (ورحمتي وسعت كل شيء)، وأنه سبحانه (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)، وضايقوا الناس وضيقوا عليهم حياتهم في ملبسهم ومأكلهم ومشربهم، وأوهموا الجميع أنهم هم فقط على الحق والبقية الباقية على الباطل.

خلقت الدنيا لتسع الجميع، المؤمن والكافر، الصالح والطالح، العابد والفاجر، صاحب الخمر وصاحب الصلاة، ومن ثم لا يمكن لأي مجتمع يضم نفوسا إنسانية أن يحيا حياة الملائكة، وأن يجعل حياة الناس تسير على الصراط المستقيم وفقا للنصوص الدينية. هذا أمر مستحيل يجب أن يقبل بحقيقته كل ذي عقل.

والمجتمع الإسلامي قديما والذي يتباهى باستقامته المنتمون إلى التيار الديني، لم يخرج عن نطاق هذه الحقيقة الإنسانية الكونية.

المجتمع الإسلامي قديما كان مجتمعا إنسانيا ولم يكن دولة إسلامية كما يعتقد البعض، والمقصود بكونه مجتمعا إنسانيا أنه تعامل مع حقائق الحياة، فظهر فيه أهل العبادة والزهاد، وأهل الغناء والطرب، وأهل السلطان بين عادل وظالم، وظهر فيه الربا، كما ظهرت فيه الملاهي والفجور، ظهرت فيه كتب الفقه إلى جانب كتب التراث الماجن، وشعر التقى، إلى جانب شعر الخمريات، إنه دنيا عالم الإسلام.

في هذه الدنيا كانت (المدينة أهم مراكز الغناء في العصر الأموي)!! والمدينة المقصودة المعروفة قبل هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها بيثرب، فهي المدينة المنورة، يقول د. شوقي ضيف في كتابه القيم «الشعر والغناء في المدينة ومكة لعصر بني أمية»: «لم تعن الشام بالغناء في أول الأمر، واستمرت العراق لا تعني به طوال هذا العصر إلا قليلا، وأما الحجاز فقد غرقت فيه إلى أذنيها، وكانت المدينة أسبق مدن الحجاز إلى العناية بالغناء، فقد رأينا أنها أخذت تعني به منذ عصر عثمان، إذ ظهر طويس وقند وغيرهما.. وهذا طبيعي لأنها هي سبقت إلى الثراء من الفتوح، وهي أيضا التي سبقت إلى اتخاذ الرقيق، وقد كانت عاصمة الإمبراطورية الإسلامية، فأسرعت إليها هذه الموجة من موجات الترف.. وينبغي أن نعرف أن المدينة ظلت هي المركز الأول في الحجاز للغناء والمغنين وتخريجهم، ولعل مما يدل على ذلك دلالة واضحة أن نجد الخلفاء في دمشق يطلبون مغنيهم غالبا من المدينة، بل إننا نجد مكة نفسها تطلب مغنيها من المدينة.

ومن المؤكد أن المدينة امتازت في الغناء هذا الامتياز بسبب كثرة الموالي فيها منذ عصر الخلفاء الراشدين، وساعد على ذلك أن أشرافها ونبلاءها كانوا يطلبونه، بل نرى منهم من جعل داره أشبه بفندق للمغنين على نحو ما هو معروف عن عبدالله جعفر سيد بني هاشم، فقد كان الناس يؤمون داره لسماع من بها من المغنيات والمغنين.. وقد استمرت المدينة مشهورة بذلك حتى العصر العباسي، إذ نرى أبا يوسف يقول لبعض أهلها: ما أعجب أمركم يا أهل المدينة فيه هذه الأغاني! ما منكم شريف ولا دنيء يتحاشى عنها.

والحديث هنا عن الغناء في ذاته لا فيما قد يصاحبه من فجور أو مساوئ كالرقص الخليع وأضرابه، فالغناء في ذاته ليس حراما، بل مما تسعى إليه النفس الذواقة، ولذلك لم يتحرج كبار القوم من فقهاء وقضاة وأشراف من الغناء أو من الاستماع إليه، كان مالك بن أنس إمام دار الهجرتين يغني أحيانا في بعض الأعراس، كما حدث وغنى في عرس ابن حنطلة، وكان البردان وهو مولى كان يتولى السوق في المدينة ويحكم بين الناس يحترف الغناء، وكان دحمان وهو من مغني المدينة، كثير الصلاة وكان مقبول الشهادة، وقد احتج البعض حين قبل القاضي عبدالعزيز بن المطلب المخزومي شهادة دحمان، مدعيا أنه لا تجوز قبول شهادته لأنه يغني ويعلم الجواري الغناء! فقال القاضي: غفر الله لنا ولك، وأينا لا يتغنى؟!

وكان قاضي المدينة ابن حنطبة يتغنى، وكان والي المدينة عمر بن عبدالعزيز يتغنى. (ألم نقل منذ البداية أنه كان من حسن حظهم أنهم لم يعايشوا الجماعات الدينية؟!)، إلى جانب ذلك اشتهرت المدينة بالمغنيات مثل عزة الميلاء وكانت لها دار يقصدها أهل المدينة لسماع الغناء، وهناك جميلة وكانت لها الدار الكبرى للغناء في المدينة، وأيضا برد الفؤاد ونومة الضحى وقند ورحمة وهبة الله (هذه أسماء بعض المغنيات)، أما الأخريات فهناك الفرهة وحبابة وسلامة وخليدة وعقيلة والشماسية وفرعة وبلبلة ولذة العيش وسعيدة والزرقاء».

الترف واللهو والاستمتاع بلذائذ الحياة جزء أساسي من دنيا عالم الإسلام، وكانت مكة تكتظ بالرقيق والجواري، وقد انتشرت الملاهي في مكة وانتشر معها المرح، وكان للعاطلين والمترفين من أهل مكة مضحك اسمه الدرامي لا عمل له سوى إضحاك الولاة وكبار القوم، لقد كان المجتمع المكي مجتمعا (ليبراليا) من الناحية الاجتماعية، إذا عرف عنه اختلاط النساء بالرجال، وسفور النساء اللواتي لم يكن يتحجبن، وكما انتشر الغناء في المدينة انتشر أيضا في مكة. ولا شك أنه كان في مكة والمدينة فقهاء ورجال علم ونسك وعبادة ومساجد، ولكن مع ذلك لم يدعوا إلى ما تدعو إليه الجماعات الدينية، ولم يكن هناك من يجبر الناس على الصلاة، ولم يتم حبس الشباب الذين كانوا يسرحون ويمرحون في أزقة مكة والمدينة كما تفعل وزارة الداخلية اليوم، كانت حياة طبيعية بكل معنى الكلمة، لأنهم تعاملوا مع حقائق الحياة.

* 1986

* باحث وأكاديمي كويتي «1951 - 2010»