يصف المفكر العربي نصر حامد أبو زيد الحضارة الإسلامية بأنها حضارة النص، وهو وصف صحيح لحد كبير، ولو أخذنا نظرة بانورامية تجاه الحضارة الإسلامية بداية من العصر النبوي وحتى سقوط الأندلس، لوجدنا أنها تتمحور حول النص القرآني، فهو من النصوص الخالدة والمركزية في المجتمع العربي، وكل النظريات والأفكار التي انتجتها هذه الحضارة ليست إلا تفاعلا وتأثرا بالنص القرآني.

كل الكتب والمؤلفات والشروحات تدور حول النص القرآني بشكل مباشر أو غير مباشر، وعندما قام الفقيه العربي الشهير ابن رشد بشرح منطق أرسطو، اقتبس من مفسري القرآن منهجه في الشرح، كما ذكر إرنست رينان في كتابه «ابن رشد والرشدية»، فشرح ابن رشد لأرسطو ليس إلا نتيجة غير مباشرة لتأثير القرآن الكريم في فكر ابن رشد، ما يعني أن القرآن ساهم في تفجير الطاقات الإبداعية عند العلماء العرب، وفتح الآفاق الفكرية الرحبة التي لا تحدها حدود، فالنص في هذه الحالة لم يكن معيقا بل محفزا للإبداع ومثيرا للعقل والفكر.

ومن ثمار الدراسات المتعمقة للخطاب القرآني نشأة ما يعرف بــ«دراسة المجاز»، وكما نعلم أن وجود المجاز في اللغة قديم قدم اللغة نفسها، فاللغة -كما يقول ابن جني- كلها عبارة عن مجاز، ولكنه مع الفقهاء وجهودهم في دراسة الخطاب القرآني، عملوا على استجلاء كلام الله بما يتناسب والمقاصد الكبرى للدين، فأصبح المجاز علم له أصول وقواعد ونظريات، ونشأة هذا العلم عند الفقهاء بمثابة النواة الأساسية لباقي الدراسات اللاحقة وخصوصا في مجال الآدب والشعر والنقد، فنشأة الدراسات المجازية كانت ذات أبعاد فقهية أولا، ترمي لتحديد العلاقة بين الحقيقة والمجاز في النص القرآني، قبل أن تكون دراسات أدبية أو نقدية.

فمع وجود كثير من المواقف تجاه مفهوم المجاز ومدى جواز وقوعه في النصوص الشرعية، نشأ كثير من المصطلحات والمفاهيم وأخذت تميل نحو التأصيل العلمي وتقعيد القواعد، وعدم وضع الضوابط للقراءة المجازية سيؤدي دون شك لفتح الباب على مصراعيه لعملية التأويل في قراءة النصوص وإخراجها عن مقاصدها، لذا كانت هناك جهود حثيثة تسعى نحو الإمساك بالمعنى والدلالة التي تبدو متملصة وغير قابلة للقياس مع القراءة المجازية للنصوص.

فكل الجهود تركزت نحو هدف رئيس وهو الوصول إلى معنى النص عن طريق حشد الأدلة واستقراء كلام العرب الذي سيساعد على فهم النص القرآني فهما موضوعيا بعيدا عن التأويل الذي كان ينظر له بصفته تفسيرا غير موضوعي للنص. فمثلا عندما قام الشافعي في كتابه الرسالة بتفسير معنى كلمة «شطر» المذكورة في الآية الكريمة «ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام» فإنه طرح أمثلة متعددة من أشعار العرب توضح المعنى للفظ «شطر» وقال معلقا عليها: «وهذا كله –مع غيره من أشعارهم- يبين أن شطر الشيء قصد عين الشيء، إذا كان معاينا فالبصواب، وإذا كان مغيبا فبالاجتهاد بالتوجه إليه، وذلك أكثر ما يمكنه فيه» ويتضح من كلام الشافعي أنه فسر كلمة شطر بمعنى الجهة، فالقول بشطر المسجد يعني جهة المسجد، وكان استقراء كلام العرب من خلال شعرهم عند الشافعي، يمثل تفسيرا موضوعيا للنصوص، ومحاولة لضبط معاني الكلام دون الخوض في التأويل والقراءة المجازية للنصوص.

إن دراسة المجاز عند الفقهاء كانت تستند على معرفة شاملة للسياق الاجتماعي الذي نزل فيه النص القرآني، فمن أهم العناصر المنتجة للمجاز ظاهرة السياق، فكانت دراستهم للسياق القرآني تهدف لتغطية سائر وظائف اللغة، من نحو وصرف وبيان وبلاغة وإعجاز، لذا كانت دراستهم للمجاز تستند على رصيد حضاري ضخم، قدم لنا - نحن أبناء القرن الواحد والعشرين- مادة مرجعية متعددة التخصصات، سهلت لنا فهم السياق الاجتماعي والثقافي الذي احتضن النص القرآني.