هناك عُرف سائد في دول المنطقة، وهو أن الدولة المتقدمة هي الدولة التي تصنع كل شيء، وتصنع أشياء ملموسة يراها الناس، مثل السيارة والجوال والطائرة، رغم عدم إدراك عدة حقائق: الأولى، هو أنه لا توجد دولة تصنع كل شيء، فحتى أمريكا تشتري أسلحة لسبب سياسي أو صناعي.

الثانية: هو أن الصناعات الملموسة القابلة للتصدير والشحن أصبحت مخاطرها الاقتصادية والسياسية أكبر، فتركيا -مثلا- تم إدراجها ضمن دول العشرين لأنها من أكثر الدول تأثرا من حركة الاقتصاد العالمي، وليس لأنها الأكثر تأثيراً، فهي دولة عمالة رخيصة، وتوجد فيها مصانع أوروبية كثيرة، وتصدر المنتجات الزراعية الدافئة والمنتجات الرخيصة لأوروبا، لذلك تركيا من أكثر الدول التي يمكن أن يدمرها أي حصار اقتصادي، بعكس السعودية التي يصعب حصارها اقتصاديا، لأن اقتصادها يؤثر على حركة الأسواق العالمية بسبب اعتماده الرئيسي على النفط، إضافة إلى قدرات الحكومة في التحكم بالأسواق.

أيضا، المصانع التقليدية للسيارات والجوالات والطائرات المدنية -تحديدا- قد تتطلب عمالة رخيصة برواتب منخفضة، وهو ما يصعب تطبيقه في السعودية، إلا إذا دخلنا في دائرة استقطاب مزيد من العمالة الأجنبية، وهدر الموارد عبر التحويلات الخارجية، وقد كان هناك أول مصنع تلفزيون سعودي، ولكنه فشل لعدم قدرته على المنافسة وتحقيق معادلة السعر مع الجودة.

لو نظرنا إلى شركة أبل، فهي شركة أفكار، فجهاز الآيفون مصمم في كاليفورنيا، ونظام التشغيل مصمم من على مكتب، ولكن تصنيع الجهاز وتجميع قطعه وحمله وشحنه يحدث في الصين وغيرها، خارج أمريكا، وهو ما يحدث لمعظم أجهزة أبل، إذ إن أمريكا غالبا ما تفكر فقط والآخرون يقومون بأعمال التجميع أو ما يسمى بالتصنيع، وهو ما يحدث مع كل الشركات التقنية، وعلى رأسها أمازون للتجارة الإلكترونية، وقليلة هي الشركات التي تصنع أشياء ملموسة داخل أمريكا ضمن الشركات المئة الكبرى في أمريكا.

في السعودية، لدينا عمالة محلية مكلفة لا تستقر بسهولة برواتب من 3000 إلى 7000 آلاف، ولا تعمل غالبا في وظائف ذات أعباء عمل عالية مع رواتب منخفضة، لأنها تجد خيارات، وتغيّر عملها، إضافة إلى ذلك لا نملك تعدادا سكانيا كافيا لصناعة مئات المصانع للمنتجات الملموسة من خلال عمالة محلية.

الأمر الآخر، الصناعات التقليدية لم تعد دليلا على التفوق الحضاري، فحتى منتجات الملابس الإسبانية صارت تصنع في بنجلاديش ومنتجات سامسونج الكورية للتلفزيونات وغيرها تصنع في مصر، ومعظم دول العالم يستطيع صناعة مكيفات وأفران وبطاريات وأجهزة كهربائية مختلفة، ومنها السعودية. فحتى صناعة السيارات موجودة في بلد متخلف ومحاصر مثل إيران، وموجودة في تركيا ومصر، بل وهناك تصنيع للسيارات الثقيلة في السعودية، ولكنها في غالبها عمليات تجميع، فمن السهل تعلم صناعة أي شيء من أي مكان، ولكن الصعب هو أن تنجح في صناعة طائرة F-15، أو سيارة مرسيدس ألمانية دون أن تكون لديك خبرات محلية طويلة، وتجارب من المحاولة والخطأ، وتعلم مستمر من البيع والاستخدام، وخبرة متراكمة في التعامل مع سوق المنافسين، فالوصول إلى مستوى جودة عال هو التحدي في الصناعات، وهو ما يقاس بالنجاح في التصدير، وهذه الجودة وحدها ليست رهانا يستدعي المغامرة في دخول مجالات غير مجدية اقتصاديا، فهامش الربح في النفط والطاقة والغاز كبير جدا، وبجهود أقل مما يتم بذله في الصناعات التقليدية، وقدرة مجالات الطاقة على سبيل المثال في التوظيف برواتب عالية أفضل بكثير، وهو ما يناسب بلادنا، كما أنه اقتصاد ذو بعد سياسي يساعد على امتلاك أوراق للتفاوض، لذلك علينا أن نقوم بما يحدث اليوم فعلا، وهو التركيز على الأولويات لاقتصاد الطاقة والخدمات والتقنية، باعتباره أهم من الصناعات التقليدية مع إبقاء التركيز على الصناعة العسكرية بشكل استثنائي، لأن الصناعة العسكرية خارج معايير السوق، إذ إنها لا تصنع لأجل البيع والمنافسة، ولا تدخل ضمن تحدي التكلفة مقارنة مع سعر البيع.

الصناعات التقليدية المعروفة مثل السيارة والجوال لم تعد دليل تقدم حضاري، وقد لا يكون لها أي أولوية، فمن السهل إحضار جوال يتضمن معالجا من الصين، ثم تغيير شكله وهويته، وتوزيعه تحت مسمى وطني، ومن السهل أن نتعلم طريقة صناعات معالجات الجوالات، ولكن ما الجدوى؟!

أكثر الدول ضررا من أزمة كورونا كانت هي الدول التي تصنع الأشياء القابلة للشحن والتصدير، خاصة الصين، وهي أيضا أكثر الدول تضررا من المنافسة، مثل سقوط صناعة شركة نوكيا وصناعة الخشب والورق في أستراليا، بسبب ظهور الآيفون والآيباد، وخروج 27 مصنعا أمريكيا من الصين بسبب كورونا، ومن الممكن أن تتوقف العلاقات السياسية مع مستورد مهم، فيتسبب ذلك بضرر كبير للمصانع وزيادة العطالة، مثلما تعرضت مدينة بورص التركية لعطالة واسعة بسبب العقوبات الروسية. ولو نظرنا إلى أمريكا فهي الأولى في التقنية ولذلك أسباب سياسية وعسكرية، فشبكات التواصل الاجتماعي وفّرت تكاليف وجهودا ضخمة من العمل الاستخباراتي، وحتى شركات السيارات الأمريكية كانت من إرث قديم من أيام الثورة الصناعية، فلم تظهر في أمريكا خلال أكثر من 50 عاما أي شركة سيارات جديدة، وما زالت تنافس في كل ما يجعلها أقوى سياسيا واقتصاديا.

الاقتصاد الأفضل هو الاقتصاد الذي يضع عدة أولويات، مثل قياس هامش الربح وحجم المخاطرة، وملاءمته التعداد السكاني وإمكانات المواطنين، وقياس بعده السياسي والاجتماعي، وإمكان تنفيذه ومناسبته لتطلعات طالبي العمل، وفائدته للدولة حتى لو كان اقتصادا نفطيا، فنحن السعوديين نتميز عالميا بالتفوق في مجال النفط والطاقة، ولدينا جامعة مرموقة متخصصة في هذا المجال، ويجب أن نتوسع فيه أكثر، ونستفيد من خلاله في التوسع في الصناعات الأخرى.