سوق الدواء العالمي حجم إيراداته حوالي 1.2 تريليون دولار «تريليون وليس مليارا». يمكنك أخي القارئ أن تتصور الحجم!، يعني ربما يأتي بعد حجم الإنفاق العسكري العالمي في المراتب، والذي حجمه حوالي 1.7 تريليون دولار!.

الشركات الدوائية الكبرى بأمريكا تصرف تقريبا 30 مليار دولار على التسويق، يذهب حوالي 20 مليارا منها لاستمالة الأطباء، والعاملين الصحيين، نتكلم على 75 مليار ريال لاستمالة و«تضبيط» الأطباء، وهذا هو المعلن، وتقدرون الرجوع إلى الأرقام، فهي منشورة، وما خفي كان أعظم.

كثير من الموتمرات الطبية ورحلاتها للأطباء تُدفع بواسطة شركات الأدوية، وهذا شبه عُرف عند كثيرين من العاملين في المجال الصحي بالعالم.

هذا لا يعني بأي شكل أن كل العاملين في المجال الصحي الذين يسافرون برحلات مدفوعة من شركات الأدوية والمعدات الطبية أنهم يرتشون، قد يكون من باب «اطعم الفم تستحي العين» أو مقابل خدمة، أو كمستشار أو لعمل معين.

هناك 3 أضلاع لمثلث المجال الطبي: الأول، الممارسون الطبيون مثل الأطباء والممرضين والتخصصات الطبية. الثاني، هم العلماء في المختبرات والأبحاث. والثالث، هم الشركات الدوائية والصيدلية. طبعا هناك الأعمال المساندة الإدارية.

لِنرَ الآن، من المسيطر على جميع الأضلاع، هل هم الأطباء أم الإداريون؟.

إن من يتحكم في الأضلاع من خلف الستار هم شركات الأدوية.

أما الممارسون الصحيون أو الأطباء فهم يعتقدون أنهم هم المسيطرون أو هذا ما يبدو لهم، ربما الطبيب جالس في عيادته أو غرفة عملياته ويشعر أنه يتحكم، لكن من الذي يموّل المؤتمرات الطبية التي يذهب إليها؟ ومن الذي يوثر في كثير من المجلات العلمية الكبرى التي يقرؤها الطبيب؟، ومن الذي جعل المجلة العلمية مشهورة، وذات مصداقية، ومن الذي جعل كلامها كأنه دستور لطبيب؟!

عندما كنت طبيبا في بداياتي، كنت أرى بعض مندوبي شركات الدواء يأتون إلى مكاتب الأطباء، يتزلفون لبعض الزملاء الذين كانوا «يلطعونهم» بالساعة، لو عاد الزمن وعرفنا ما نعرفه الآن بعد عقود، لقلت للزميل: احذر، إنك تقابل مندوب الزعماء دون أن تعلم.

قبل أكثر من عقد، قررت ألا آخذ أي هدايا أو تذاكر سفريات من شركات الأدوية، وأعرف بعض الزملاء لهم التوجه نفسه، وهذا لا يعني أن من يأخذون العطايا على خطأ، بل هو عُرف في المجال الطبي بكثير من العالم، لكن من باب الصراحة مع القارئ، أنا إنسان واقعي، فإني أملك صداقات - ولنقل معارف - مع كثير من رؤساء الشركات الدوائية، ومن باب ألا تريد أن تعادي من يتحكم في مفاصل المجال الطبي، ومن أنت حتى تعادي جهة تصرف 75 مليارا لاقناع و«تضبيط» كثير من الأطباء؟، لذلك أحافظ على علاقات جيدة معهم، حسب مبدئي.

وللحق، لن تجد أكثر حُسن تعامل وحلو لسان من مسؤولي شركات الأدوية، يشعرونك أنك أنت الزعيم. ما زلت أذكر الرئيس التنفيذي لأحد أكبر شركات الأدوية بالعالم، بعد انتهاء اجتماع، أوصلنا إلى المواقف وأحرجنا بحسن استقباله وتوديعه، لذلك أفضل مبدأ بالنسبة لي «لا يطعم الفم علشان ما تستحي العين، ويبقى احترامه لك، وفي الوقت نفسه لا تعاديهم، واحتفظ بحسن العلاقة معهم، دون أن تكون تابعا لهم»، فمن يعاديهم ينسى البقاء في المجال الطبي، بل من الممكن يقلبون عليه حتى زملاءه وأصدقاءه ومديريه.

لوبي شركات الأدوية من القوة لدرجة أنك ممكن أن تعدّه مقاربا للوبي شركات السلاح وشركات النفط، قادرون على شراء وإقناع كثير من السياسيين والمسؤولين حول العالم، طبعا كثير من المنظمات الصحية والجمعيات في الجيب لديهم.

الذي تغيّر حاليا في علاقة شركات الأدوية وبعض العاملين في المجال الصحي، أنه سابقا - قبل سنوات - كانت العطايا على عينك يا تاجر، رحلات سفر خمس نجوم للممارس الصحي وعائلته في أفضل الفنادق وعطل، هذا غير الهدايا العينية، وكانوا كرماء صراحة، وحتى لهم علاقات مع جميع المجالات الأخرى خارج قطاع الصحة، «لو تبغى لبن العصفور يجيبونه» بشبكة علاقاتهم، بينما حاليا صار الموضوع أكثر احترافية، صار مثل «نجيبك مستشار أو تعطي محاضرات وندفع لك»، ما هذه المحاضرة التي يحضرها 4 أو 5 أشخاص وشركة الأدوية تدفع آلاف الدولارات للطبيب «علشان يلقيها؟!».

المهم أن الموضوع صار قانونيا، بعض المسؤولين في بعض الدول العالم ما زال يحب الكاش، ويقول مصدر عليم بسبب زيادة الرقابة ومكافحة الفساد في بعض الدول، إنه صار التحويل يصير لحسابات أقارب المسؤول في أوروبا وسويسرا!.

سابقا، كان بعض الدكاترة الأعزاء ننظر إليهم نظرة إعجاب عندما كنا أطباء يافعين، كان ما فيه دراسة تطلع إذا ما يحفظها ويرددها علينا، وكان نموذجا بالنسبة لنا، ومع الوقت لما دخلنا دهاليز الطب وعرفنا الحقائق، عرفنا أن «خوينا» كان مجرد ببغاء يردد ما سمع دون علم عن الخفايا والخلفيات، وإلا كيف يتم التوصية بعلاج في مجلة علمية مرموقة، وبعدها بفترة يتم الهجوم عليه، وعرفنا كيف تحول الهجوم من السكريات إلى الدهون، وعرفنا لماذا كان أخذ الأسبرين توصية مهمة، ثم أصبح الآن خطرا على الصحة للبعض، لدرجة أن بعض المرضى يصاب بنوع من الارتباك من كثرة تضارب الدراسات، أهم شيء ما يزعل الزعيم، وهو شركات الأدوية.

في بعض الأحيان أقول لنفسي، بعض الممارسين الصحيين مرتاحون، لأنه تأتيه الدراسة الطبية جاهزة، وهو في عيادته أو غرفة عملياته، وهو يصرف الدواء مرتاحا، ولا يدوّخ نفسه بمن وراء التوصية أو الدراسة وحيثياتها، وعايش دور البطولة، لما تكون عالما أو لك تعامل مباشر مع الأبحاث، فإنك مجبور على معرفة الخلفيات والزوايا، من باب الشرح للقارئ، الممارس هو عادة الطبيب «ام دي»، أما عالم فليس لقب يلقيه الشخص على نفسه بل هو شهادة «بي اش دي» غالبا، وهؤلاء يتعاملون مع الأبحاث بشكل مباشر، ويتعاملون مع شركات الأدوية منذ البداية، فيعرفون كثيرا من بواطن الأمور.

مختصر القول، إن شركات الأدوية هي الزعيم الذي يدير الأحداث من خلف الستار في المجال الطبي، شاء من شاء وأبى من أبى، وهذا عرف عالمي.

طبعا، كرما منهم يعطون الواجهة للممارسين الطبيين، لا أحد يستطيع الوقوف أمام شركات الأدوية، فالأفضل حتى إذا لم تكن أحد المسوقين لهم ألا تعاديهم، وأيضا لا تعادي أيا من زملائك في المجال الطبي المسوقين لهم، واحتفظ معهم بعلاقات حسن الجوار.

هذا الشرح في هذا المقال ليس للمجال الطبي، فكثيرون يعرفون ذلك، ولكن المقال للمرضى والعامة، حتى يعرفوا لماذا تتغير التوصيات والأدوية مع الوقت إلى عكسها أحيانا، وحتى موضة الطب المبني على الأدلة، من الذي يضع الأدلة؟

أرجوكم، ما تشاهدونه في بعض الأحيان من تغيير بعض التوصيات، لا تلوم بعض الممارسين الصحيين، فبعضهم مثل الببغاء يكرر ما يقرؤه ويسمعه، أو قص ولزق دون تفكير، وهذا هو الدور المطلوب، و«مريح رسه»، ولماذا يدخل في صراعات مع أباطرة مثل شركات الأدوية، فلا أحد قادر على السباحة ضد تيار 1.2 تريليون دولار، ولا ضد إغراء وإقناع 20 مليار دولار بشكل مباشر، و«خلّك واقعي!».