«يضيع البؤس مع البائس»، مقولة سمعتها خلال مقطع لمسلسل أجنبي، كان العجوز -أو لنقل الخبير- يتحدث مع شخص آخر يتذمر من الحب، إذ إنه لو علم ما سيتعرض له من ألم وحزن واشتياق ولوعة لما أحبّ، وكان فكّر ألف مرة قبل أن يخوض تلك التجربة!، فكان رد الخبير، وهنا أطلقت عليه الخبير لما يؤمن به هو عن ذاته، ومما يعطيه الحق -حسب نظره- أن يعلن فلسفته، ويحكم خلالها على الآخر، بأن الإنسان الذي يشتكي أمامه هو إنسان مملّ، بل هو أكثر شخص قابله بلادةً! وكيف ذلك؟ لأنه يتمرد على أجمل جزء من التجربة، فكل ما سبق لا يعني شيئا للتجربة من دون البؤس الذي يشعر به المحب!، الخسارة الحقيقية هي أن تصل إلى مرحلة لا تشعر فيها بأي شيء نحو الآخر.

ولنترك خبيرنا وننتقل إلى موضوع اليوم، أو سؤال اليوم: هل كل شاعر قد مرّ فعلا بكل الخبرات والمشاعر التي يصفها في قصائده؟ هل إبداعه كذبٌ في ثوب حقيقة، أم هو حقيقة في ثوب كذب؟.

قرأت ذات مرة أن بعض الشعراء كي يكتبوا شعرا لا بد أن يعيشوا الحالات التي يصفونها، ولن يصلوا إلى مرحلة الإبداع ما لم يمروا بتلك المشاعر الحزينة، أي أن يعيشوا حالات البؤس، ولهذا نميل نحن إلى قراءة الشعر وكأنه واقع ونتألم ونتفاعل معه، بالطبع حسب الحالة النفسية التي نمر بها، فأحيانا نمر بحالة من البرود كبرود الثلج، فلا يؤثر فينا شيء، وأحيانا تكون قلوبنا قد ضجّت بها النّار، وكل كلمة ترفعنا إلى أعلى، أو تنثر على جراحنا ملحا، ليس لأننا نمر بنفس ما يذكره الشاعر، ولكن لسبب آخر تماما حتى إننا قد نكون نجهل أصلا مصدر هذه التعاسة المؤقتة أو المشاعر الثقيلة التي اقتحمت الروح دون أن نتنبه لها، فنحن لم نخسر أحدا ولم نفارق عزيزا، ولا نحن واقفون على الأطلال نبكي الدّيار، ونستعيد ذكرياتنا مع الأحبة، ولكن تلك الكلمات لامست قلوبنا وهزتنا فتفاعلنا معها، هل يهمنا أن مصدر القصيدة أو النثر حقيقة؟ هل كنا سنتفاعل مع قصيدة بلقيس لنزار قباني لو لم يكن هنالك أصلا بلقيس؟ هل يقلّ تفاعلنا إن اكتشفنا أنه لم تكن هنالك ليلى ولا عبلة ولا بثينة؟ هل تهزنا الكلمات أم ما نعرفه من قصة خلفَ الكلمات؟ هل نستحق حقا هذه المشاعر أم هي خسارة على أمثالنا طالما أن الحقيقة خلف الإبداع هي مَن حركتنا لنعيش الإبداع؟ هل نفضل أن يتألم غيرنا حتى يخرج إلينا بأجمل ما لديه؟ وماذا لو كان كل ما يصفه غير واقع؟ ماذا لو كانت كل تلك الخبرات كذبة؟.

بالنسبة إلى القصائد والنثر، كل كذبة لها أصل نبع من حقيقة شخص آخر، قد يكون سمع عنه، أو قرأ، أو حتى شاهده، والذي يحدث أنه لقوة أدوات الاستشعار في داخله يتقمص الحالة إلى درجة أننا نصدقه، نعرف أن قصيدة «رسالة من امرأة حاقدة» لرجل، وأن صوت المرأة في قصيدة «أنت طالق» لرجل، ولكن حين نقرأ ندخل إلى المشاعر وننسى الشاعر، إلى أن نعود ثانية إلى الواقع، إذ نعرف تماما أن نزار لم يكن امرأة ولم يخنه رجل، وأن عمر لم يكن امرأة تطلق من رجل.

المشكلة اليوم نجدها عند كثير ممن يطلقون على أنفسهم شعراء، حقا لا تعرف عم يتحدثون، يستخدمون كلمات حزن وألم ومشاعر متخبطة داخل طلاسم من الكلمات، والتي لا تعرف أين تجد تفسيرا لها!، وكيلا تبدو غير مثقف أو جاهلا أو بلا مشاعر، يجب عليك أن تصفق وتقول: «يا سلام، ما هذا الإبداع؟ لقد جاءت كلماتك على الجرح»، أي جرح وأي خدش وأي وَهْم تتحدثون عنه؟! لا فكرة ولا تناسق ويا ويل قلبي.. ولا حتى إملاء، تُذبح اللغة العربية بين أيديهم، ويطلقون على ما يقدمونه شعرا أو نثرا، وهو لا يرتقي إلى «خرابيش الدجاج»، سطّرت على أوراق تخجل مما تحمل، وتشتكي الاغتيال اليومي للأبجدية، والطامة الكبرى أنها تُجمع وتغلف وتباع، ويتصدر صاحبها المنصة، كالطاووس يدخل، ثم كالديك يأخذ الميكرفون ليصيح، مع هكذا بائس يضيع البؤس وتنتحر المشاعر، لا كذب ولا حقيقة ولا حتى خيال، لا شيء البتة! كيف أصبح اللا شيء إبداعا؟! هذا هو نتاج الحَصِر، عذرا العصر الحديث.