بين الفينة والأخرى، تظهر دعاوى ملخصها: «أن هناك مبالغات في دعوى وجود الشرك زمن الإمام محمد بن عبدالوهاب، رحمه الله».

والقائلون بهذه الدعوى -في نظري- طائفتان:

1 - طائفة لا يريدون معاداة التوحيد، ولا التهوين من الشرك، ولكن التبس عليهم الأمر التاريخي، أو ربما ظنّ بعضهم أن في ذلك إساءة إلى بعض أسلافهم.

2 - وطائفة أخرى يُصرحون بمعاداة التوحيد، ويكتفون بتوحيد الربوبية دون إخلاص العبادة لله، ويرون أن طلب المدد من أهل القبور ومن يسمونهم أولياء ليس شركاً، وأن من وصف ذلك بالشرك فهو مبالغ.

ولضيق مساحة المقال، وكون بسط ذلك محله الكتب، فإني سأختصر جدا، وقبل بسط الجواب، فإني ألفت النظر إلى مسألة مهمة وهي: أن مصادر العقيدة الصحيحة هي الكتاب والسنة وإجماع السلف، وليست الجوانب التاريخية، فما ورد في الكتاب والسنة أنه شرك فهو شرك، سواء وُصف بالمبالغة أو لم يُوصف، وما لم يدل الكتاب والسنة أنه شرك فليس بشرك، فالمصدر هو الكتاب والسنة، وكل قول يعرض على الكتاب والسنة، فما وافقهما قُبل، وما خالفهما تُرك، مهما كان قائله. إذا تقرر ذلك، فإني أبين أمورا:

1 - أن أصحاب هذه الدعوى لم يذكروا بيّنة على دعواهم، والعلم كما هو معلوم إما نقل مصدق أو بحث محقق، وما عدا ذاك تزييف منمّق، ومن المعلوم -كذلك- أن من كان ناقلا فإنه يُطالَب بتصحيح نقله، ومن كان مدّعياً فإنه يُطالَب بالدليل والبينة، ولم يذكر أصحاب هذه الدعاوى أي بينات، وإنما ذكروا استنتاجات مبنية على اجتزاءات وظنون، وعدم دقة في تفسير معنى الشرك ومعنى التوحيد، إضافة إلى قطعٍ للكلام عن سياقه، وعدم رد المتشابه إلى المحكم.

2 - مع أنه لا بينة على دعواهم، فإن البينة التي تقوم بها الحجة الشرعية والعقلية، أثبتت نقيض دعواهم، فأثبتت أن المظاهر الشركية موجودة في زمن الإمام محمد بن عبدالوهاب، ومنها صرف العبادة لغير الله، وهذه البيّنات: منها شهادة عشرات العلماء في تلك العصور، ولم يعارضهم إلا المدافعون عن الشرك والخرافات والدروشة. فمن أولئك العلماء الذين شهدوا بانتشار الشرك تلك الفترة، على سبيل المثال:

1 - الإمام محمد بن عبدالوهاب نفسه، «ففي المجلد الخامس عشرات الرسائل التي يذكر فيها انتشار الشرك، ويكشف الشبهات برسائله الحوارية، ومنها رسالة بعثها إلى عبدالرحمن بن ربيعة مطوع أهل ثادق، قال -رحمه الله-»مَنْ عَبَد الله ليلا ونهارا ثم دعا نبياً أو ولياً عند قبره، فقد اتخذ إلهين اثنين، ولم يشهد أن لا إله إلا الله، لأن الإله هو المدعو كما يفعل المشركون اليوم عند قبر الزبير أو عبدالقادر وغيرهم، وكما يفعل قبل هذا عند قبر زيد وغيره«. الرسائل الشخصية رقم»24«. وفي رسالته التي بعثها إلى شريف مكة سنة 1204هـ، قال:»نهيناهم عن دعوة الصالحين وأمرناهم بإخلاص الدعاء لله، فلما أظهرنا هذه المسألة مع ما ذكرنا من هدم البناء على القبور كبر على العامة، وعاضدهم بعض من يدعي العلم، لأسباب ما تخفى على مثلكم«. الدرر 1/‏57.

2 - العلماء الكبار في العالم الإسلامي، ومنهم: السيد الشريف الحنفي، المعروف بالعبجي، المتوفى سنة 1174في كتابه»الأعيان الخيار«، فقد ذكر أن الإمام محمد بن عبدالوهاب طهّر الدين من الشرك المنتشر في زمنه، ومنهم: حسين بن مهدي النعمي اليمني في كتابه»معارج الألباب 2/‏ 622 ـ 623«، ومنهم محمد بن أحمد السفاريني»ت 1188«في كتابه غذاء الألباب، والآلوسي في كتابه»القول الأنفع في الردع عن زيارة المدفع«، وكذا الصنعاني.

3 - بعض القضاة، ومنهم: قاضي الدرعية عبدالله بن عيسى، وهو من المعاصرين للشيخ، قال رحمه الله،»فالله الله عباد الله: لا تغتروا بمن لا يعرف شهادة أن لا إله إلا الله، وتلطخ بالشرك وهو لا يشعر، فقد مضى أكثر حياتي ولم أعرف من أنواعه ما أعرفه اليوم -فلله الحمد على ما علمنا من دينه- ولا يهولنكم اليوم أن هذا الأمر غريب، فإن نبيكم، صلى الله عليه وسلم، قال: «بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ»، واعتبروا بدعاء أبينا إبراهيم -عليه السلام- بقوله في دعائه: «واجنبني وبني أن نعبد الأصنام، رب إنهن أضللن كثيراً من الناس»، فهذا من القضاة فما بالك بغيره من العوام؟.

4 - المؤرخون من داخل الجزيرة العربية وخارجها، شهدوا بذلك، ومنهم: الجبرتي المصري، وكذا ابن بشر، وابن غنام، وقد عاصروا تلك الأحداث وشاهدوها، وهم أعلم ممن لم يعاصرها ولم يشاهدها، وقد قرئت كتبهم على أئمة الدعوة وأقروها.

5 - المستشرقون الأجانب: المستشرق كارل بروكلمان، شهد أن الإمام محمد بن عبدالوهاب أعاد إلى الناس صفاء العقيدة، وقضى على ما لم يمت إلى الدين بصلة، وكذلك المستشرق ستودارد وصف واقع العالم الإسلامي قبيل دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب فقال: «وأما الدين فقد غشيته غاشية سوداء، فألبست الوحدانية التي علّمها صاحبُ الرسالة الناس سحبا من الخرافات، وقشور الصوفية... ويزينون للناس التماس الشفاعة من دفناء القبور»

6 - الغربيون: قالت الباحثة الأمريكية ناتانا حي ديلونج باس، عن الإمام محمد بن عبدالوهاب إنه دعا إلى «العودة إلى القرآن والسنة، والقضاء على الممارسات الدينية الشائعة كتقديس القبور والأولياء».

فهذا -أخي القاريء الكريم- كلام الإمام محمد، يصف ما رآه بعينيه، وكلام العلماء الكبار، والمؤرخين، والمستشرقين، والغربيين، فلا يُترَك ذلك كله، ويُتبَع كلام من بينه وبين الإمام محمد قرون، لم ير ولم يُعاصِر، ولا دليل معه ولا بينة.

ثم إني في ختام هذا المقال أقول: يلزم من هذه الدعوى أمران:

1 - تسطيح جهود شيخ الاسلام محمد بن عبدالوهاب ومناصره الإمام محمد بن سعود، رحمهما الله، وكأنهما لم يحاربا الشرك المنتشر، ويرسخا عقيدة التوحيد، لأن هذا هو مقتضى دعوى المبالغة في وجود الشرك آنذاك.

2 - إظهار دعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- وكأنها متفقة مع جماعات العنف، التي تدّعي وجود الشرك مع عدم وجوده، وتُكفّر المسلمين وتُقاتلهم، وهذه لوازم باطلة، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم.