المملكة العربية السعودية دولة قوميتها عربية منذ آلاف السنين، وعرفت أرضها النظام الملكي منذ ميلاد مملكة كندة قبل (2200) عام على أقل تقدير، وجاء الإسلام فأصبح لها دينا منذ ألف وأربعمئة.

قبل ثلاثمئة سنة جاء مؤسس الدولة السعودية الأولى الإمام محمد بن سعود كقائد لثورتين، الثورة الأولى (ثورة الاستقلال القومي) ضد الاستعمار التركي وحتى الغربي، واستمرت هذه الروح تسري في جسد الجزيرة العربية من بعده، فلا توجد قبيلة في أنحاء الجزيرة العربية إلا وفي سجلاتها حكايات شعبية عن ضحايا أبطالها ضد الاستعمار العثماني وشواهدها كثيرة، وصولا إلى الاستعمار الغربي ومقاومته بتأثير من الدعوة الوهابية على يد جيش من أبناء منطقة عسير (رغم تفشي الطاعون في الجيش العسيري)، وشاهده ما أورده فاروق أباظة في كتابه (الحكم العثماني في اليمن 1872ـــ 1918) ص (44) عن محاولة إخراج الإنجليز من عدن بقوات من عسير، وأنها كانت بتأثير الوهابية في 1262هـ 1846م.

الثورة الثانية (التنوير الروحي) ضد الخرافات والبدع، والتي جعلت الباحثين الذين استعرضوا تاريخ (النهضة العربية) في العصر الحديث يفردون فصولا لدعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب، كعلامة مهمة من علامات التنوير (في زمنها) لا يمكن تجاوزها -مهما اختلفوا معها- وما قد يحصل الآن من تشويه ليس إلا محاكمة تعتمد المغالطة، إذ تجري محاكمة (تاريخ الدعوة الوهابية) وفق معايير (زمننا)، وما لا يمكن محاكمته فيها هو حقيقة دعوتها القائمة (على نفي التوثين في مختلف أشكاله ومستوياته وفي جميع ما يشير إليه أو يؤدي إليه من الوسائل والذرائع والأسباب)، ففي هذه النقطة تماما تتجاوز الدعوة كثيرا من المفاهيم الفلسفية الحديثة التي تحارب العقل الخرافي، والإشكال يكمن في جمود كثير من أبناء الدعوة على الأدوات والطرق التي كانت قبل ثلاثة قرون، غافلين عن العصر الحديث وأساليبه في معالجة الأساطير والخرافات بدراستها وتحويلها إلى مادة علمية قابلة للنقاش والنقض والقبول والرفض، وتعدد القراءات وصولا إلى الاستثمار السياحي باعتبارها مجرد سلعة تاريخية تدعم اقتصاد الدولة، دون الحاجة إلى سفك الدماء وإرهاب العوام، أو إتلاف أحد أهم المعطيات الثابتة للدولة الحديثة المتمثلة في (التاريخ/ الآثار)، أما التوحيد بالمعنى الديني فتبقى حقيقته ضميرا لا يشق أحد فيه على قلوب الناس، وهذا ما خلق العبقرية والعظمة في روح الموحد مؤسس الدولة السعودية الثالثة عبدالعزيز آل سعود، فوجود التنوع المذهبي هو دليل هذه العبقرية التي تنفي عن الدولة (الحديثة) كل دعاوى الطائفية، وهذا ما يجعل المؤرخ العقلاني يؤمن أن العبقرية تكمن في شخص عبدالعزيز الذي أوصل الدولة السعودية دون سواه ممن سبقه إلى معنى (الاعتراف العالمي، وتبادل السفراء، وسك العملة... إلخ) لتتحقق نبوءته في نفسه وفي ذريته من بعده «لسنا وإن كرمت أوائلنا، يوماً على الأنساب نتكل، نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل (فوق) ما فعلوا»، أما أتباع الدعوة الذين نظروا لها كسقف أعلى لقراراتهم وأفعالهم فلم يتجاوزا ما صاروا إليه في معركة السبلة، أو ما حاولوا إعادة إنتاجه من خلال حركة جهيمان، وهنا يتضح الفرق بين (ملك) سليل أسرة حاكمة ينظر بعين عليا لشعبه وتنوعاتهم المذهبية كطبيعة بشرية، وسليل (تزمت ديني دون وعي تاريخي وسياسي) لنقولات الإمام محمد بن عبدالوهاب عن علماء السلف، فينفي الموحد عن دولته هذا التزمت في معركة السبلة، ثم نشاهد الحفيد وهو ينفي عن الدولة (خبث التزمت الصحوي) كما نفى جده وأعمامه من قبل كل ما يمس عرض الدولة في المحافل العالمية، ويحفظ للسعودية لياقتها في سباق الحضارة الإنسانية.

وبهذا يتضح أن التراكم التاريخي الطويل عبر القرون في قلب الجزيرة العربية أنجب تغيراً نوعياً ظهر من خلال المؤسس الأول للدولة السعودية الأولى عند اتفاق الدرعية عام (1744م)، فقد سبق الحركة القومية بما يزيد على مئة وخمسين سنة، ونعني القومية التي تأسست عبر الجمعية العربية الفتاة عام 1891م لمقاومة تتريك العرب، فالجذوة القومية العربية داخل الإمام محمد بن سعود وجدت وقودها في دعوة محمد بن عبدالوهاب كثورة للسمو الروحي على الخرافات والبدع وما يستتبع ذلك من استقلال قومي، وفي هذا (ربما) تفسير لموقفه الداعم للدعوة بخلاف غيره من الزعماء المتعاطفين معها دون الوقوف لأجلها، ولهذا فدعوة الإمام محمد بن عبدالوهاب تختلف جذرياً عن دعوة الإخوان المسلمين التي ظهرت بعد ما يزيد على مئة وثمانين سنة على يد حسن البنا، ولمن لا يعرف الفرق الأيديولوجي بينهما عليه ملاحظة أن حركة (الإخوان المسلمين) جاءت في عمق بنائها الفكري كحركة حنين أيديولوجي وتاريخي للدولة العثمانية بعد سقوطها بعكس ما ناضل من أجله الإمام محمد بن سعود، وفي هذا تفسير لحقيقة الميلاد الفكري عند حركة الإخوان المسلمين في الاستتباع والحنين الأعمى لزمن الأستانة/ إسطنبول، والتي تطورت مع هذه الحركة طوال تاريخها في العالم الإسلامي وصولا إلى زمن كهولة حركة الإخوان وارتمائها في دار رعايتها الأخيرة أرض تركيا، فكأنما ولدت حركة الإخوان من رماد (أستانة بني عثمان) لتضع نفسها من جديد رماداً في مرجل (إسطنبول إردوغان)، التاريخ يسير من تحتها وهي تحاول اللحاق به تلفيقاً وترقيعاً، كالمومس العمياء تقبض ليلاً من هذا وذاك، وفي النهار تسير كأنها رابعة العدوية.

كل هذا كي يعلم الجيل الجديد من السعوديين أننا فوق لغة التبرير التي يظن بعضنا أنه بحاجتها في كل محفل ثقافي أو مناظرة إعلامية، وما تقرره المصلحة الوطنية من ضرورات سياسية حفاظاً على الكيان السعودي، أولى وأهم من قلق شعبوي يضغط به المرجفون هنا وهناك باسم فلسطين والعروبة تارة، وباسم الإسلام تارة أخرى، فباسم الدين نحن قلب التاريخ والجغرافيا الإسلامية بلا شوفينية، وباسم القومية نحن قلب التاريخ والجغرافيا العربية بلا فاشية، فالشوفينية والفاشية تستجلبان الأعداء بلا سبب، وتوقعان في المواقف الحرجة بلا ثمن، بل تضيعان حتى الأرض في شراء السماد!!.