الأمن في الأوطان والصحة في الأبدان من مُقومات الحياة، فلا حياة بدون أمن ولا حياة مع سقم. والنفس من الضروريات الخمس التي جاء الإسلام لحفظها، وذلك عن طريق مشروعية ما يُحافظ به الإنسان على نفسه ويُبقيه على قيد الحياة من أمن وصحة. أمر الشارع الحكيم بالقوة «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة» بهدف البقاء والحفاظ على النفس والمُمتلكات وفي ذات الشأن أمر بالتداوي «ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله» لذات الهدف، السعي لحفظ البدن والعقل.

رغم ضرورة الأمرين معا، القوة والتي يُمثلها السلاح «ترهبون به عدو الله وعدوكم» وكذلك الصحة والتي لا تدوم، فالبدن يسقم والعقل يعتل، ليأتي الدواء ليُعيد الاتزان للصحة، إلا أن كليهما في زمننا الحالي تلوثا بأدران السياسة والاقتصاد، رغم ما يُقال من أن هناك أخلاقيات ذات طابع مهني وعلمي وتقني وإنساني في إطار فردي ومُجتمعي ومُؤسساتي تقف وراء صناعتي السلاح والدواء، ليُصبح عرفاً دولياً من المُفترض أن تصونه الجهات والمُنظمات الدولية ذات العلاقة. المُتتبع لصناعة السلاح، يرى التمادي في إنتاج أسلحة ذات طابع فتاك، تخرج عن إطار القوة المنصوص عليها كضرورة للحفاظ على النفس والمُمتلكات لتتجاوز الحاجة للدمار الشامل، لتُصبح إما أداة للفرض والسيطرة لأهداف سياسية أو كتجارة بغض النظر عن الجانب الأخلاقي والإنساني في إنتاج وتوزيع السلاح أو كليهما.

يتناول حديثي اليوم صناعة الدواء «Pharmaceutical Industry» وقد يقول قائل وما العلاقة ما بين صناعة الدواء وصناعة السلاح، فالدواء «بسلم» يُشفي من الداء والسلاح «أداة حرب وتدمير وقتل». يُنتج الدواء في العادة من خلال مُستخلصات عشبية في صيغة مُنتجات صيدلانية مُقننة أو من خلال تركيبات كيمائية-صيدلانية صرفة، بافتراض علمي أن الجميع يُقابل بشكل مُباشر الميكانزمات المُرضية المُسببة للمرض بهدف علاجه نهائيا «Cured» أو التحكم فيه أو الإقلال من تداعياته الصحية «Treated» لتحسين جودة الحياة. تمر صناعة الدواء عبر مراحل تبدأ من اكتشاف المُستحضر في صورته الطبيعية-العشبية أو الكيمائية، لتتم الدراسات التجريبية على حيوانات التجارب وفي حالة نجاح المُستحضر وفقاً لمُحددات علمية على الحيوانات، تمتد التجارب العلمية لتشمل الإنسان من خلال مُتطوعين بتحذيرات وقواعد صارمة. تتكون التجارب البشرية للمُستحضر من مُجموعات تجريبية يُستخدم معها المُستحضر المُصنع ليقابل ذات الميكانزيم المرضي الذي يقف وراء المرض، والذي من أجله تم تطويره ومجموعات ضابطة يُستخدم معها عقار وهمي «Placebo» يُشبه في شكله الصيدلاني شكل المُستحضر الأصلي دونما معرفة مُسبقة من قبل مرضى المجموعتين، أي منهما التجريبية أو الضابطة ودونما معرفة أيضا من المُقيمين لفاعلية الدواء، أيهما مجموعة تجريبية أو ضابطة وفق أخلاقيات مهنية صارمة، وفي نهاية الطريق تُختتم بدراسات ما وراء التحليل العلمي «Metanalysis» لتكن وسائل علاجية فعالة مُثبتة بالدليل العلمي «Evidence-based».

أصبحت تجارة الدواء في المرتبة الثالثة بعد تجارة السلاح والمُخدرات، لتصل استثماراتها إلى تريليونات الدولارات. تجاوزت صناعة الدواء الجانب الإنساني، والذي من أجله أنشئت وخرجت للأسف من جلبابها وغيرت مسارها، لتُصبح تجارة في أبعاد اقتصادية وسياسية صرفة، ولم تكتف صناعة الدواء بهذا التجاوز الخطير، لتصل إلى ما هو أخطر من ذلك وهو التلاعب في مُخرجات الأبحاث العلمية وتغيير مسارها في صالح صناعة الدواء وشراء ذمم الباحثين والمراكز البحثية، ليشمل الأمر التحكم في مُخرجات الدوريات العلمية ذات السمعة العالية، من خلال نشر نتائج تلك الدراسات عن طريقها والتي هي في صالح الدواء دون التدقيق العلمي على مسار العقار البحثي وفقا لمناهج البحث العلمي والأخلاقيات البحثية، وصولا للتسويق الصيدلاني غير الأخلاقي من خلال منح من سوف يقوم بوصف الدواء «امتيازات» مالية ومعنوية وسفريات وتجوال دولي مفتوح الميزانية ومصروف جيب الخ، لينتهي الأمر بتهميش دور الغذاء والمُنتجات الطبيعية الغذائية كدواء عنوة.

لعل ما يحصل في جائحة انتشار فيروس كورونا دليل على ما ذُكر أعلاه حول التعاطي مع الفيروس في حيويته وعلاجه واستخراج مصل واق منه، والذي لم يسلم من شر صناعة الدواء، وكذلك التلاعب في مُخرجات الأبحاث العلمية وتحوير مسارات الدوريات العلمية تجاه صناعة الدواء، ليشمل الأمر ما يُقال ويُشاع عن تحكم صناعة الدواء فيما يخرج من تحت قبة مُنظمة الصحة العالمية، وهنا مكمن الخطر، ليُصبح الدواء «سلعة» تُستغل وتُستخدم في غير مسارها الصحيح.

هل بالإمكان أن تقوم هيئتنا المُوقرة «الهيئة العامة للغذاء والدواء» بعمل مُستقل يستهدف صناعة الدواء بمكوناته الطبيعية والكيمائية محلياً، وكذلك صناعة الغذاء في بعده الصحي والعلاجي، والتنسيق مع الهيئات الخارجية وليس مُجرد استيراد الدواء والغذاء، لصناعة محلية في أبعاد علمية ومهنية وإنسانية وأخلاقية؟