نُذُر حربٍ في المنطقة. قد تبدو كلامية أو إعلامية. لكن في المدى يرتفع صوت قرع الطبول ودويها تدريجياً. رائحة البارود هي المتسيدة. السماء في ليبيا مُلبدة بالغيوم لدى البعض، وصافية لدى البعض الآخر. لا مُجنزرات ولا هدير للطائرات. المرتزقة الذين قدموا على متن طائرات العصملي يقومون بالمهمة. يؤدون دور الحاكم الجبان المنكفئ على نفسه في أنقرة.

جاء «خليفةٌ» من أقصى الشرق يُدعى رجب طيب إردوغان يؤمن به وبمشروعه ثُلةٌ من المُتسكعين والفارين من أوطانهم، وبعضٌ من المُفلسين في «مصر والكويت وقطر» من المحسوبين على «مشروع الخلافة»، مهرولاً لإنقاذ ما تبقى من فلول الإخوان المسلمين المتمثلة في حكومة الوفاق الليبية. كبُر في نفسه حلم استعادة امبراطورية أجداده المزيفة والملطخ تاريخها بالدماء. ذريعة البحث عن إرثٍ للدولة العثمانية المزعومة، التي مُرغ أنفها في نجد، حاضرةٌ بقوة. لا تاريخ أجداده مُجدٍ للبحث عنه، ولا حاضر دولته مُشرّف. اللغة المصلحية والنفعية تتسيد التفكير العصملي.

سال لُعابه على مقدرات شعب متشظٍ، بعد أن فرض قبضته عليه حاكمٌ معتوه عقوداً من الزمن. لا يؤيده إلا دويلة اختارت العزلة عن محيطها، وبات حاكمها كحامل بطاقات بنكية يعمل لدى من هو أكبر منه وأعلى منه صوتاً. ينتهج الرئيس التركي في ليبيا ذات النهج والسلوك السياسي الذي تستخدمه الجمهورية الإيرانية في سورية ولبنان واليمن. القتال بمن لا ناقةً لهم ولا جمال في حروب قذرة. قد لا يمكنه استخدام سلاح «الناتو» في هذه الحرب، التي ستنعكس عليه وباءً لا محالة. وقد يخشى مواجهة الجيش المصري. كلا الاحتمالان واردان. يدرك إردوغان مدى قوة هذا الجيش المصنف عالمياً ضمن أقوى جيوش المنطقة، ويخشى في ذات الوقت من قوة الردع العربية التي تشكلت منذ الوهلة الأولى التي أعلنت فيها القاهرة موقفها من التدخلات التركية في الشأن الليبي. أنا على يقين بأن الوضع في أنقرة قبل حالة الالتفاف التي مثلتها مواقف دولٍ عربية عديدة، بعد قول الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بأن «مدينتي سرت والجفرة في ليبيا خط أحمر بالنسبة لمصر» ليس كما بعدها. في حديث السيسي خلال زيارته قطاعات من الجيش قبل أيام رسائل واضحة لتركيا، والأهم لحلف الناتو الذي تنتسب له أنقرة. وضوح تلك الرسائل يستند على رافعة عربية تعي تماماً أهمية الأمن القومي المصري وانعكاسه على المنطقة بأسرها، بالإضافة إلى تمكن مصري من التعامل مع القبائل الليبية، التي يجهل المُحتل التركي مدى أهميتها، فالشعب الليبي يحتكم إلى قانون القبيلة والعشيرة بعد أن تحولت الدولة إلى دولة ذات عدة رؤوس. يعيد التاريخ نفسه.

وكأني أمام عملية «نبع السلام» التي أطلقتها أنقرة في سورية أكتوبر الماضي. لكن ليبيا ليست سورية. دخول الرئيس التركي في الشأن الليبي بهذا الشكل من شأنه خلط أوراق مصالح دول «حلف الناتو». من خلال تلك العملية في سورية وقع إردوغان في فخين. الأول فتح المجال للمتطرفين في تنظيم داعش للهرب. والثاني عملت تلك العملية من حيث لا يعلم على تعزيز الدور الروسي في سورية والمنطقة. هنا تعارض في مصالح دول الحلف. وفي ليبيا المشهد قريب إلى ذلك. تعزيز دور التطرف من خلال فتح باب التواصل بين من قدموا من سورية والمتواجدين في ليبيا بالأساس، سيكون وبالاً على الحلف، وسيصبح أحد سمات الحرب التي تسعى لها أنقرة. وقد تكون نافذة الحرب في ليبيا مُغريةً للدب الروسي الباحث عن نفوذ في الشرق الأوسط، فإن تدخل القيصر في تلك الساحة سيذهب إلى مصلحة موسكو، وهي الحصة الأهم للأوروبيين في الشرق الأوسط، حيث النفط، والإطلالة على البحر الأبيض المتوسط، أحد أهم ممرات الطاقة المائية المكشوفة في المنطقة. أتصور أن على العالم فهم «الشهوة الإردوغانية» للحرب. الحلم التركي التوسعي سيكون وبالاً على دول حلف الناتو، وسيعمل على تقويض كثير من المصالح الأوروبية في المنطقة. حتى وإن بدت دول الحلف مكبلة وعاجزة عن تجميد عضوية أنقرة أو إلغائها، إذ من الناحية القانونية لا يمكن لها إقصاء أو استبعاد أي من الأعضاء، إلا في حال طلب الانسحاب من قبل أي دولة بموجب الفصل الـ13 من اتفاقية الناتو.

وعلى الرغم من ذلك فعلى تلك الدول الاستفادة من الدروس السابقة التي تسببت بها المواقف التركية على دول الحلف.

الاستكبار التركي لا حدود له، ولا سقف له. أزعم أن الكثير يفهم التناقضات الإردوغانية، التي تُحرّم على السعودية حماية خاصرتها الجنوبية، بعد أن عاثت جماعة الحوثي المتطرفة عبثاً في الحديقة الخلفية للمملكة، واستولت على الحكم بقوة السلاح والارتماء بحضن الولي الفقيه، ويمنح لنفسه الحق بقصف مقرات حزب العمال الكردستاني في رؤوس جبال كردستان العراق، وأطراف من شمال سورية.! نحن نُدرك من هو. آن للعالم استيعاب سلوك تلك الشخصية التي باتت كـ«طاووس مصاب بالسعار».