رغم حالة الابتهاج التي عمت غالبية الأشخاص بعد عودة الحياة لطبيعتها ومزاولة الأنشطة بعد انقطاع طويل امتد لأكثر من ثلاثة أشهر، إلا أن هناك فئة أعدادها في تزايد، فقدت الرغبة في الخروج بعد مكوثها بالمنزل لفترة طويلة. ويمكن وصف هذه الحالة بـ (متلازمة الكوخ)، وهو مصطلح أطلق من قبل الجمعية الإيطالية للطب النفسي، وذلك بملاحظة سلوك العديد من الأشخاص بعد عودة الحياة في إيطاليا وحتى بعض دول أوروبا لطبيعتها، أصبح الناس يجدون الأمان في المنزل وانعدام الرغبة في الخروج منه، والتأقلم من جديد مع الخروج ومزاولة تفاصيل الحياة اليومية. وهو ما فسره رئيس الجمعية بقوله «يعيش العديد من الأشخاص الآن أوقاتا صعبة خوفا من مواجهة حياتهم السابقة، ومغادرة المنزل الذي أصبح ملجأ يحميهم ويحفظهم من الفيروس»، ولم تكن هذه الظاهرة لتصيب عددا قليلا من الأشخاص، بل تجاوز عدد المصابين بها حاجز المليون مصاب في إيطاليا، الأمر الذي يوحي بمدى الانتشار الفعلي لهذه المتلازمة.

سمح الحجر الصحي للناس بمزيد من الوقت لأنفسهم، وعواطفهم وهواياتهم، وهذا هو السبب في أنهم قد يحجمون الآن عن العودة إلى حياتهم السابقة. إلى جانب ذلك، هناك أولئك الذين اعتادوا، عن غير قصد وإرادة، على الروتين الجديد ولا يريدون تبديله مرة أخرى. العزلة في المجمل غير محمودة، لكن آليات البقاء التي انتهجناها سمحت لنا بمقاومة هذا الشعور والتكيف مع الانغلاق، والانكفاء داخل دائرة المعارف الضيقة.

نحن بطبيعة الحال نعيش في مجتمعات عملية تفاعلية، نفعل الأشياء دائما، وننتج دائما. إعادة الـتأقلم والبداية من جديد دائما ما تكون مخيفة، لكنها ضرورية. لأن الأثر السلبي المصاحب لها كبير، وقد يخلق الكثير من المشاكل بسبب أعراض هذه المتلازمة، من حدة الانفعال والعصبية، وحالة من الاكتئاب. وبحسب ما أفاد فريق من الباحثين في إسبانيا فإن عدد الأشخاص الذين يعانون من هذا الاضطراب بالعالم في تزايد كبير، ولتجاوزها، نحن بحاجة إلى التعود على العالم الخارجي تدريجياً.

فئة من المجتمع لدينا تعاني فعليا من هذه المعضلة كذلك، الأمر الذي يتطلب منا جميعاً استيعابها، وبذل الجهد والإلمام بالوعي على الأصعدة كافة لتجاوزها. فسيكولوجية الأشخاص وسلوكياتهم شابها الكثير من الاختلاف الفترة الماضية، وبالتالي لا بد وأن نكون واعين لتلك التحولات، الوعي الركيزة الأساسية التي ننطلق منها في حياة ما بعد كورونا.

من يتتبع واقع تعاطي المجتمع عبر شبكات التواصل الاجتماعي بمختلف أطيافه، يدرك تمام الإدراك أن عبارات التوعية باتت تشكل منهجا أساسيا في أطروحاتهم، من حيث ترديد عبارات مختلفة متعلقة بالأزمة مثل «التباعد الاجتماعي»و«نتباعد لنتواصل»، وغيرها من العبارات التي باتت تمثل أساسا لطرح الناس في تلك الشبكات، وهذا سلوك جيد، ولكن الأهم ألا تكون تلك المنشورات عبارة عن شعارات مستهلكة يرددها الناس دون أن يترجموا معانيها على أرض الواقع. غالبا كتابة المنشور وتقديمه للمتابعين يأتيان من ناحية دور مجتمعي يحقق به الشخص رضا ذاتيا، ثم لا يهم بعد ذلك ماذا يفعل! فعندما نتحدث بشكل مباشر عن الوعي في الأزمات، فإننا نلحظ وجود تباين في مستوى سلوكيات الوعي المجتمعي، مقارنة بما يتلفظون به، وينطقونه، ثم تباين على مستوى الوعي بين الأفراد قد يصل في بعض الحالات إلى اختلاف كبير، في الوعي بين أفراد الأسرة نفسها، ثم تتسع الدائرة لتلامس أطراف العالم أجمع، فالسلوكيات هي المحدد الأساس والجوهري لقياس مستوى الوعي. بقدر مطالبنا من المجتمع بضرورة التقيد بالتعليمات والوجود المنزلي طوال الفترة الماضية، فإننا بحاجة ماسة اليوم إلى توعية مضادة، تتمثل في تحفيز الناس للخروج، وكسر حاجز الخوف، والتحرر من هذه المتلازمة، مع الالتزام بقواعد السلامة المطلوبة، وذلك من خلال صناعة إستراتيجية تثقيفية وتوعوية، عبر شبكات التواصل مماثلة لذات التي كانت تطالب الأشخاص بالبقاء. يقول الفيلسوف الهندي كريشنامورتي: الأزمة هي أزمة الوعي، والثورة الحقيقية هي ثورة الوعي.