يرتبط عنوان المقال بالمثل العربي القديم «جنت على أهلها براقش» الذي سأعود إليه في نهاية المقال.

توضح تطورات أحداث المنطقة في الأسابيع الماضية وجود سياسة إقليمية تركية تهدف إلى فرض وتوسيع النفوذ التركي في المنطقة العربية كلها، لأن من شأن هذا النفوذ أن يمكّن أنقرة من السيطرة على اقتصاد الدول العربية، والتحكم بها سياسيا واقتصاديا. فالهيمنة السياسة والاقتصادية على المنطقة العربية هي الهدف الرئيس للسياسة الخارجية التركية في الوقت الحاضر، والتي تحتل قائمة الأولويات عند الرئيس إردوغان. فمن شأن النفوذ السياسي أن يحقق السيطرة الاقتصادية والعكس صحيح.

وفي ليبيا بالتحديد نجد أن الاهتمام التركي يتركز على الغاز والنفط الليبي بسبب فائدته الاقتصادية وأهميته الإستراتيجية وحاجة أوروبا له، وكذلك فإن إعمار أو إعادة إعمار ليبيا سيعود على الشركات التركية بفوائد جمة، وسيؤدي إلى تعميق النفوذ السياسي التركي في ليبيا. ومن ليبيا يمكن للنفوذ الاقتصادي والسياسي التركي أن يتوسع إلى تونس والجزائر. وغنيٌ عن القول إن من شأن الهيمنة الاقتصادية التركية على المنطقة العربية أن يساعد الحكومة التركية في مواجهة العديد من المشاكل الداخلية في تركيا.

هكذا أقرأ السياسة التركية، وهكذا أفهم التصعيد التركي الأخير في المنطقة. إن متابعة الأحداث والمواقف والتصريحات التركية توضح أن أنقرة ماضية في تنفيذ سياستها التوسعية في المنطقة. والمشكلة الراهنة مع تركيا تتعلق حقيقة بهذه السياسة وليس فقط في تدخلها بليبيا. ففي الأسبوع الماضي اعتدت تركيا على العراق متذرعة بضرب حزب العمال الكردستاني في شمال العراق، دون أن يكون هناك أي سبب مباشر يبرر حجم العملية العسكرية التركية داخل العراق. وكذلك عملت تركيا على زيادة دعمها لحكومة السراج في ليبيا، بالرغم من المشاكل التي واجهتها مع بعض الدول الأوروبية في هذا الموضوع، ووصل الأمر إلى درجة تقترب من المواجهة العسكرية البحرية بين تركيا واليونان أولا، وتركيا وفرنسا ثانيا. وصعّدت تركيا من لهجتها تجاه الاتحاد الأوروبي ومصر والعراق ودول عربية أخرى، وأوعزت إلى حكومة السراج برفض دعوة مصر لعقد اجتماع وزراء الخارجية العرب لمناقشة الأزمة الليبية. وتلا ذلك انتقاد ومهاجمة وزير الخارجية التركي لموقف فرنسا المعارض لتركيا واتهامه باريس بدعم حفتر وإرسال المرتزقة له، وكذلك تعرض حفتر لهجوم من وزير الداخلية التركي الذي رفض قبول أي دور سياسي له في مستقبل ليبيا. وينبغي التنبيه إلى أن هذا التصريح الذي صدر من وزير الداخلية وليس وزير الخارجية التركي يعتبر مقدمة واضحة لاستعمار تركي في ليبيا. فوزير الداخلية التركي هو الذي يحدد منذ الآن مستقبل ليبيا السياسي، ومن يشارك أو لا يشارك فيه. وخاصة أن هذا التصريح لوزير الداخلية التركي جاء مصاحبا لحديث إردوغان السابق عما وصفه «بالإرث والتراث العثماني في ليبيا». ومن ناحية أخرى تتضح لنا نية الحكومة التركية بتدعيم وجودها العسكري في سورية وتوسيع نطاق عمليتها العسكرية في شمال العراق. وأشارت بعض التقارير إلى وجود اهتمام متنام للحكومة التركية بتقوية علاقاتها مع إثيوبيا، والعمل على تقوية موقف الحكومة الإثيوبية في خلافها مع مصر حول سد النهضة، بهدف الضغط على مصر، ويلاحظ أن بعض المسؤوليين في إثيوبيا قد صرحوا بأن إثيوبيا متمسكة بموقفها حتى لو أدت مشكلة سد النهضة إلى حرب مع مصر، واستغرب بعض الرسميين المصريين التصريحات الإثيوبية في هذا الأمر، وأخيراً ذكرت بعض التقارير الإخبارية ما يفيد بأن الاستخبارات التركية تدرس وتخطط إمكانية تدخلها في اليمن لمساعدة الحوثيين بالتنسيق مع إيران، وذلك بهدف ممارسة الضغط على دول التحالف العربي الذي تقوده السعودية مدعومة بالإمارات.

جميع هذه الأحداث والتصريحات وآخرها تصريح إردوغان بأن أي تدخل عسكري مصري في ليبيا سوف تقابله مواجهة عسكرية تركية، تدل على وجود سياسة تركية تهدف إلى زيادة الوجود التركي في ليبيا. جميع أعمال التصعيد التركي في المنطقة كلها أدت إلى استياء عربي رسمي وشعبي كبير. وسوف يتبلور في الأسابيع القادمة - كما أعتقد- موقف عربي حازم ضد الممارسات التصعيدية التركية. وقد يكون إعلان الرئيس المصري قبل أيّام عن استعداد الجيش المصري للتدخل في ليبيا إذا لزم الأمر لمواجهة المقاتلين المرتزقة السوريين، والذي أثار غضب إردوغان، قد يكون هو بداية موقف المواجهة العربية ضد تركيا بشكل صريح. وخاصة بعد صدور تصريحات رسمية بتأييد موقف مصر من السعودية والإمارات والبحرين ودول عربية أخرى، والتي تدل جميعها على الاستياء العربي العام من التدخل التركي في ليبيا. ولتنفيذ سياسة توسيع نفوذها في المنطقة العربية تقوم الحكومة التركية باتباع نفس النهج الذي اتبعته إيران لفرض هيمنتها في المنطقة. فكما اعتمدت إيران على الطائفية المذهبية فإن تركيا تعمل اليوم على توظيف الإسلام السياسي لكسب دعم الإخوان وغيرهم من حركات الإسلام السياسي في الدول العربية. وكما قامت إيران بإنشاء وكلاء لها في المنطقة وهم حزب الله اللبناني والحشد الشعبي العراقي والحوثيون باليمن، فإن تركيا اليوم تعمل على تأسيس وكلائها في المنطقة أولهم السراج في ليبيا، وثانيهم المرتزقة السوريون الذين أرسلتهم تركيا إلى ليبيا، وثالثهم وربما أخطرهم الإخوان، وكذلك زعماء بعض الحركات الإسلامية مثل الغنوشي في تونس. ويرتبط جميع هؤلاء الوكلاء بالإسلام السياسي الذي يجمعهم في مركب واحد، ويهدف إلى تسييس الدين لتحقيق مكاسب سياسية. وستعمل الحكومة التركية على تدعيم نفوذها السياسي في الدول العربية من خلال وكلائها المنضمين تحت إطار أو نطاق مشروع الإسلام السياسي في العالم العربي.

إن الحكومة التركية سوف تستخدم جماعات وحركات الإسلام السياسي لتدعيم نفوذها في المنطقة، وفي المقابل فإن هذه الحركات والجماعات والزعماء مثل الغنوشي في تونس يحتاجون إلى الدعم التركي لتدعيم قوتهم داخل دولهم. فالمصلحة مشتركة تخدم أهداف الطرفين. وأعتقد أن الإخوان في مصر يأملون الآن بتثبيت أقدام تركيا في ليبيا لكي تتمكن من مساعدتهم في المستقبل. هذا وإن تطور العلاقة بين تركيا وجماعات وأحزاب الإسلام السياسي في الدول العربية سوف يخلق جوا مشحونا بالتوتر والتأزم في العلاقات التركية العربية.

فلقد عانت الدول العربية كثيرا من مشاكل تطرف جماعات الإسلام السياسي لسنوات طويلة. وإن جميع الدول العربية من المغرب وحتي اليمن تعرضت لأعمال الاٍرهاب التي قامت بها هذه الحركات. وأصبح الإسلام السياسي فكرا وتنظيما يشكل خطرا أمنيا كبيرا على الدول العربية وبعض الدول الإفريقية والآسيوية المسلمة، وما تزال بعض مظاهر هذا التطرّف والاٍرهاب موجودة حتى الآن. إن الفكر المتطرف الذي تبناه زعماء حركات وأحزاب الإسلام السياسي هو الذي أنتج القاعدة وداعش وجبهة النصرة والجنجويد، وبوكوحرام وغيرها كثير. وتقوم الحكومة التركية الآن بإنعاش الإسلام السياسي بعد أن نجحت الحكومات العربية في إضعافه وتحجيمه. ولا أعتقد أن الحكومة التركية تسعى لدعم الاٍرهاب في سياستها التوسعية، ولكن التطرّف والاٍرهاب سينجم عن دعمها للإسلام السياسي. فالإخوان الذين تدعمهم أنقرة بشكل رئيس يشكلون البيئة الحاضنة التي يخرج منها التطرّف والاٍرهاب. وهناك إدراك عربي وإسلامي لهذا الأمر. فقبل أيّام فقط قال الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامي: «إن تنظيم الإخوان أكثر خطرا من داعش». إن نظرة بعض الدول العربية للأزمة الليبية أعمق بكثير من اعتبارها مجرد أزمة سياسية تعكس مواقف مختلفة، فالنظرة العربية تربط هذه الأزمة بمحاولة استغلال تركيا للحركات الإسلامية المتطرفة والزعماء المتطرفين الإسلامويين والإخونجية في المنطقة كلها. قبل أيّام أفتى مفتي ليبيا السابق المعزول وهو سياسي تابع للسراج بتكفير الجيش الوطني الليبي وأباح دم جنوده وأجاز قتل الأسرى منهم. فتوى غريبة تدل على التطرّف ولا تتفق مع أي تعاليم أو أخلاق إسلامية. لا يفتي بقتل الأسير إلا شيخ متطرف لا يتذكر موقف الرسول الكريم في التعامل مع أسرى الحرب. وتذكرني فتوى هذا الشيخ بفتاوى القتل التي كان يصدرها مشايخ بعض الجماعات المتطرفة في مصر وغيرها من الدول العربية والإسلامية. والملفت للنظر عدم صدور أي شجب لهذه الفتوى من السراج الذي يتبع له صاحب الفتوى.

هل يدرك إردوغان أن دعمه لحركات الإسلام السياسي في الدول العربية يمكن أن يعيد بذور التطرّف والاٍرهاب من جديد إلى المنطقة؟ إن إردوغان لا يدعم هذه الحركات والجماعات من منطلق ديني ولكنه يدعمها لكي تزداد قوتها وتساعده في فرض نفوذه في دولها، أي أن دعمه يأتي من منطلق قومي تركي وليس من منطلق إسلامي. ومن المعروف عن إردوغان تعصبه القومي التركي بشكل كبير قد يفوق توجهه الإسلامي. ففي مقارنة مختصرة بين أتاتورك وإردوغان، قال أكاديمي متخصص في السياسة التركية: إن إردوغان وأتاتورك توأمان في الاستبداد ونقيضان في التوجه ومتطابقان في تعصبهما للقومية التركية. وبيت القصيد هو أن إردوغان يدعم لأسبابه التوسعية الخاصة الإخوان وغيرهم من حركات وجماعات الإسلام السياسي في الدول العربية. ولكن دعمه لها قد يضر بتركيا وبإردوغان نفسه في المستقبل. وقد لا يرى الرئيس التركي هذا الأمر الآن بشكل واضح لأن الإسلام السياسي العربي يخدم مصالحه. ولكن أليس من المحتمل أن تنتقل عدوى تطرّف الإسلام السياسي إلى تركيا نفسها. فالحدود والجنود لا يمنعوا فكر التطرّف من العبور إلى تركيا تماما كما لا يمكن منع الكورونا عبر الحدود من دولة لأخرى.

إن فكر التطرّف مثل روايات الرعب يجد دائما من يهتم به ويبحث عنه ويقرأه. إن فكر التطرف الذي تدعم حكومة أنقرة بعض مروجيه في العالم العربي سوف ينقلب ضد تركيا ويضر بها. أليس من الممكن لهذا الفكر أن يؤثر في بعض شباب الأكراد في تركيا ويدفعهم إلى القيام بأعمال متطرفة؟ أليس ممكنا لبعض شباب الأتراك المتحمسين للإسلام أن يصبحوا ضحية هذا الفكر الضال الضار، كما حدث مع بعض شباب العرب؟ هل يلعب إردوغان بالنار من حيث لا يدري؟ وهل يدرك الصامتون المتفهمون لموقف إردوغان في أمريكا وأوروبا خطورة دعم الحكومة التركية لأحزاب الإسلام السياسي العربية في ليبيا وغيرها؟

ربما يعتقد إردوغان أن تركيا لديها مناعة ضد التطرّف. ولكنه مخطئ وساذج في هذا الاعتقاد وسوف يكتشف ذلك بالمستقبل. وعندها هل سيندم إردوغان عندما لا ينفع الندم؟! وقد ينطبق على إردوغان المثل القائل: «جنت على أهلها براقش»، وهو مثل عربي قديم من أيّام الجاهلية يضرب لمن عمل عملا أضر به نفسه وأهله. وللحديث بقية أناقش فيه ما قاله إردوغان عن «الإرث والتراث العثماني» في ليبيا وكذلك احتمالات تداعيات الأزمة الليبية.