قد يكون من السهل على المتابع الجديد للسياسة الأمريكية الوقوع في عدة منزلقات خاطئة في فهم ما يجري، إما لأنه يقيس المعطيات التي يتابعها بناء على ما تعود عليه في إعلامه المحلي من منهج في التعاطي مع القضايا، فكثير من الطرح الإعلامي ذي البعد السياسي ينطلق من زاوية الـ«نحن» والـ«هم»، وبالتالي فإن تعاطي البعض مع الشأن السياسي الأمريكي المعقد يصبح أقرب إلى التشجيع الرياضي منه للفهم السياسي المبني على العقل لا المنجرف والمهيمن عليه من العاطفة، أو لأنه يفضل الاقتناع بما هو مقتنع به أصلا دون أن تكون لديه الرغبة في توسيع مداركه بإمكانية وجود احتمالات أخرى.

ولأبين ما أرمي إليه سأضرب مثلاً أراه أصبح جزءا من الخطاب الاستقرائي المتعلق بالسياسة الأمريكية خصوصا مع دخول موسم الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وهو استقراء أرى كثيرا منه رغبوياً أكثر منه تحليلا سياسياً محايدا يتبع منهجاً موضوعياً، خصوصا إذا علمنا أن الواقع السياسي الأمريكي وعوامل تحريكه معقدة لدرجة يصعب معها إعادة نتائجه لسبب واحد أو عامل معين، بل في كل يوم يمكن أن يحدث طارئ يقلب أو يعيد التوازنات باتجاهات لا يمكن استقراؤها بشكل منطقي.

من تلك المنزلقات، اللغط الناشئ لدى حديثي المتابعة حول ما إذا كانت استطلاعات الرأي التي تقوم بها معاهد متخصصة يمكن الاعتماد عليها في توقع نتائج الانتخابات القادمة بين ترمب وبايدن، أو فيما إذا كانت ترسم صورة حقيقية لواقع اجتماعي أو سياسي معين، خصوصاً بعد أن تبين أن الاستطلاعات التي سبقت انتخابات 2016 -التي أكدت فوز هيلاري كلنتون - كانت خاطئة، حيث فاز ترمب بتلك الانتخابات كما هو معلوم.

الأمر الذي قد يفوت على حديثي المتابعة للسياسة الأمريكية أو حتى من يرغب في أن ينقض نتائج الاستطلاعات الحالية من مؤيدي مرشح معين، هو أن الاستطلاعات التي تجرى بطبيعتها تتغير بشكل مستمر من جانب، وبالتالي فهي ليست اليوم نتيجة حتمية لمخرجات الانتخابات في نهايتها، كما أنها أرقام تقرأ الحالة وفق الوضع الراهن، والذي يمكن له أن يتغير بين لحظة وأخرى، فالإحصائيات الشاملة لعادات الناخبين الانتخابية تؤكد أن جزءا لا بأس به من الناخبين الأمريكيين يقررون لمن سيصوتون في اللحظات الأخيرة، وبالتالي فإن أي استطلاع دائما ما يتضمن هامشا من الخطأ قد يكبر أو يصغر بناء على المنهجية المحايدة التي تتبعها المؤسسة التي تجري الاستطلاع أو قرب أو بعد نتائجها عن الموعد النهائي ليوم الاقتراع.

وعلينا ألا ننسى أن هيلاري وإن كانت قد فشلت في الفوز بالرئاسة إلا أنها تمكنت من الفوز بالصوت الشعبي بفارق ثلاثة ملايين صوت عن منافسها ترمب، وعليه فتلك الاستطلاعات التي فشلت في استقراء الفائز بالمجمع الانتخابي المطلوب، نجحت في المقابل في تحديد نتيجة الصوت الشعبي.

وعلينا هنا أن نلفت انتباه المتابع الجديد للسياسة الأمريكية، وكذلك المتحمسين لمرشح معين بأن الاستطلاعات الشهيرة وإن كانت قد أصيبت بضربة بعض الشيء في دقتها إلا أن هناك استطلاعات صدقت في نتائجها، ولكنها لم تكن من تلك المصادر التي ركزت عليها وسائل الإعلام، وبالتالي لم تروج لها بسبب رغبتها في خدمة أجندتها الضيقة التي تدعم مرشحا على آخر، وعليه فالانطباع العام للمتابع الجديد هو أن الجميع توقع فوز هيلاري، وبالتالي فالاستطلاعات لا يعتمد عليها بينما الواقع يقول إن هناك استطلاعات توقعت بالفعل فوز ترمب.

ولمن لا يريد أن يقتنع إلا بأن استطلاعات الرأي هي قياس ولا يمكن الارتهان إليها في قراءة المشهد الانتخابي، عليه أن يعلم أن الاستطلاعات كانت وستبقى الآلية الوحيدة المعترف بها في أمريكا، وفي المجتمعات الديمقراطية لمتابعة الواقع والآلية الوحيدة التي يعتمد عليها المرشحون أنفسهم وأحزابهم في تخطيط وتعديل وإعادة توجيه إستراتيجياتهم الانتخابية، فإن كانت بالفعل كما يقول حديثو المتابعة فإنها بلا مصداقية، فلماذا خرج الرئيس ترمب المتضرر حتى الآن من الاستطلاعات لينتقد من جانب شبكة قنوات فوكس المؤيدة له لنتائج استطلاعها الأخيرة، التي أوضحت تقدم منافسه بايدن، ومن جانب آخر لماذا طلبت حملة الرئيس ترمب من قناة سي إن إن سحب نتائج استطلاعها الذي أجري قبل نحو أسبوعين نظراً لعدم مناسبة نتائجه رغبات الرئيس، حيث تبين هي الأخرى تقدم بايدن، ولماذا تنفق الأحزاب والحملات الانتخابية ملايين الدولارات في إجراء استطلاعات حزبية ووطنية إن لم يعتبروها المقياس الأهم الذي يعينهم على تنفيذ خططهم؟

من المهم على المهتم بمتابعة السياسة الأمريكية أن يعلم أن الترمومتر الذي تقاس به مجريات السياسة الأمريكية هي الاستطلاعات، ولا شيء أهم من الاستطلاعات، وعلى الرغم مما حدث في 2016، إلا أنها تبقى المقياس الوحيد لقياس الرأي والآلية المعتمدة لعمل الحملات الانتخابية وواضعي السياسات الاجتماعية وغيرها، وعليه فأمام المتابع الجديد أن يختار ما بين الركون لفهم ما يجري على المقياس المعترف به ديمقراطياً أو متابعة من يروق له من المحللين الرغبويين وأساتذة التوجيه الجماهيري.