ثم يأتي السؤال الأهم: إذا كان المسلمون هم المحرك القوي للتقدم الأوروبي الذي نشهده بجميع أشكاله، فلماذا لم يتقدم المسلمون، ولماذا لم يصنعوا السيارة والطائرة والقطار وغيرها من المخترعات التي تُسَهِّل حياتنا الآن؟
الجواب أعطيك إياه بإيجاز، ثم بتفصيل، الجواب المختصر: أن الذي حال بينهم وبين ذلك التقدم التقني هو الانزياح الحضاري نحو الأمم الأخرى، ومنها اليونان تلك الأمة التي يعتبر الغرب نفسه خطا وريثاً حضارياً لها.
أما الجواب بالتفصيل: فإن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم جاءا بتعاليم عظيمة جعلت استعباد الإنسان في هذه الأرض لله؛ وقَيَّدته بتعاليم تضبط حياته وجميع تعاملاته في يومه وليلته، لكنها مع هذا فتحت له مجالًا رحبًا في العلم والتفكر فيما خلق الله مِن حولهم وفي أنفسهم والبحث في كل ذلك واستكشافه. وكل ذلك لا يمكن أن يتسنى إلا في عالَم الشهادة؛ وعالم الشهادة هو ما يدركه الإنسان بحواسه الخمس أو بعضها، سواء أكان ذلك مباشرة فيما يراه الإنسان أو يسمعه أو يبصره أو يُحسِّه أو يشمُّه، أم بوسائط كالكائنات الدقيقة التي لا تُرى ولا تُسمع إلا بوسائط مجهرية ومخبرية.
أما عالَم الغيب وهو ما كان فوق السماء من مخلوقات وعوالم، أو ما لا يمكن إحساسه أو مشاهدته، وما ليس لمعرفته طريق سوى الوحي، فقد نهى القرآن الكريم عن تتبُّعه، وأمرَ بالتسليم فيه لما يخبر الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} [الإسراء:36]. فإذا بحث الإنسان وتفكر وتدبر في عالم الشهادة وصل إلى نتائج تزيده معرفة بنفسه وبالكون مِن حوله، فيستطيع بما يصل إليه من معرفة خصائص الأشياء أن يخترع ما يجعل حياته أيسر وأفضل، وعمرانَه للكون أشد وأقوى وأنفع؛ لأن أدوات الوصول إلى الحقائق موجودة لديه في عالم الشهادة وهي الحواس الخمس وما انبثق عنها من آلات؛ أما عالم الغيب فلا يزيده البحث فيه إلا عناءً وتشتُّتًا واضطرابًا واختلافًا؛ لأن الإنسان لا يملك أيَّ أداة تمكنه من الوصول للحقيقة في هذا العالم سوى ما نص عليه الله تعالى في كتابه؛ فالوسيلة الوحيدة للتعرف على عالم الغيب هي النصوص الشرعية لا غير.
وقد عمل المسلمون بهذه الحقيقة، وهي الاقتصار في البحث العلمي على عالم الشهادة وحسب؛ والتسليم لله تعالى فيما يتعلق بعالم الغيب، طيلة سيادة الفهم السلفي للإسلام، وذلك في القرون الأربعة الأُوَل؛ وهي الحقبة ذاتها التي ظهر فيها كبار النابهين في التاريخ الإسلامي في الطب والصناعة والفلك والرياضيات والهندسة والعمارة؛ وكان الجو العلمي والسياسي في تلك العصور يخضع فكريًّا للسيادة في حاضرة الخلافة وما تهيمن عليه من الأمصار للمنهج السلفي، باستثناء الحقبة القصيرة ما بين آخر عهد المأمون وأوائل عهد الواثق، والتي لا تتجاوز بضع عشرة سنة؛ وكانت حُرِية البحث العلمي في عالم الشهادة لا تعيقها فتوى شرعية ولا قرار سياسي؛ نعم: إن معظم من طارت أسماؤهم في الآفاق من هؤلاء الباحثين لم يكونوا على منهج السلف واعتقادهم؛ كالكندي وجابر بن حيان والبيروني وابن سينا؛ لكن أجواء حرية البحث العلمي التي عاشوها هي المسؤولة عن ظهورهم وغزارة إنتاجهم، فلم يعترض فيما أعلم أحد من علماء الشريعة على أيٍ من هؤلاء في أبحاثه وأعماله الفلكية والطبية والرياضية؛ وإنما اعترضوا على بعضهم في آرائهم فيما يتعلق بما وراء الطبيعة، أي في عالم الغيب؛ فحينما كان البيروني وابن سينا وأضرابهما يتكلمون في عالم الغيب الذي لا يملكون أدوات البحث فيه كانت الردود والاعتراضات تأتيهم، وحين كانوا يبحثون في الفيزياء والطب والرياضيات كانت طريقتهما العلمية تمشي دون تعثر.
والماورائيات آراء مخالفة للقطعي من الشرع المعلوم من الدين خلافه بالضرورة؛ أما نتائج أبحاثهم فيما لا يتعارض مع قطعي النصوص فلم تكن أبدًا محل خصومة معهم أو تأليب ضدهم حتى لو لم تكن محل اتفاق معهم.
وخير مثال على ذلك رأي أبي الريحان البيروني في كون الأرض تدور على محورها لا أعرف -وأنسب عدم المعرفة لنفسي- أحدًا كفَّره بهذا القول أو حال بينه وبين نشره؛ بل كان البيروني من المقربين من البلاط الغزنوي وهو بلاط سنِّي معروف برفع راية التدين وإعلاء شأن علماء الدين والجهاد في سبيل الله. وعلى كل الأحوال فبروز أمثال هؤلاء المناوئين لمنهج السلف في الاعتقاد بعلومهم التجريبية في جو علمي أشد ميلًا إلى المنهج السلفي إنما هو شهادة نَيِّرة للحرية العلمية التي كان يُوَفِّرُها العلماء لمثل هذه الأبحاث التجريبية، حتى ولو أتت على أيدي مناوئين لمنهجهم. والذي ينبغي الالتفات إليه: أن أول حادثة -قتل بتهمة الفلسفة وربما كانت الأخيرة-إن ثبتت تاريخيًّا وحسب علمي أنها لم تثبت-كانت على يد دولة الموحدين، التي جلبت المذهب الأشعري إلى المغرب؛ مع الدعاوى العريضة بالعقلانية لدى الأشاعرة ومن تبعهم.