زرت تونس ثلاثاً. كل مرّة تحمل انطباعاتها الخاصة. الأولى كانت في عهد الراحل زين العابدين بن علي. قبل ما يعرف بـ«ثورة الياسمين». كانت تتسم بالهدوء. يرتسم على محيا أهلها الترحاب. التعبير عن المحبة باللغة التونسية، أشبه بتقسيمة موسيقية دونها قائد أوركيسترا وأقنع بها فرقته وأحبوها. عُدتُ إلى عاصمة بلادي، بانطباع قد يقودني للعودة مرة أخرى لزيارة تلك الدولة الهادئة. المهم أن أعود للاستجمام، ليس للعمل الصحافي والبحث عن حقيقة مخفية.

مُرغماً زرتها بعد عهد بن علي مرتين. كانت حركة النهضة التي يديرها راشد الغنوشي - أحد أكبر قادة الإخوان المسلمين في العالم – مُتسيدة. إن لم تكُن متسيدة فهي على الأقل متصدرة المشهد. لم يكُن ذلك مُتاحاً قبل أن تصفع سيدة تعمل في قوى الأمن الداخلي التونسي، بائع الخضار الشاب محمد البوعزيزي، الذي أضرم النار في نفسه، أمام مقر ولاية سيدي بوزيد، في محاولة لاستعادة ما تبقى من كرامته. اشتعلت البلاد غضباً من النظام الحاكم بأسره آنذاك. اشتعلت بـ«الياسمين»، ليس بقوة السلاح والنيران. المهم أن القاسم المشترك بين الزيارتين الأخيرتين «الإخوان المسلمون».

أذكر في الزيارة الثالثة والأخيرة، وفي وقت متأخر من الليل، كنت بمعية الصديق فهد الجميعة. نركب سيارة فارهة تحمل أرقاماً دبلوماسية. يعمل فهد حينها مديراً لمكتب وكالة الأنباء السعودية في تونس. كُنّا نعود من منزله، بعد أن أولم لنا أنا ومجموعة من الدبلوماسيين الخليجيين العاملين في تونس. يقطن في منطقة قريبة من السفارة السعودية، التي تحول اسم الشارع الذي تقع فيه إلى اسم «محمد البوعزيزي»، بعد أن كان يطلق عليه شارع 7 نوفمبر.

بمحاذاة الفندق الذي كنت أسكنه وأنا عائد إليه، مررنا بنقطقة تفتيش. هم الجندي نحوي مباشرةً. ألقى التحية، وطلب ما يُثبت أني إنسان. منحته جواز سفري. التفت إلى زميله. قال له «سعودي». أجابه الذي أظن أنه قائده.. «أنزله». حول الجندي بندقيته صوبي، وقال لي ترجل.! أمام السلاح ترجلت خوفاً وليس شهامة. طلبت من فهد الهدوء بعد أن حاول مواجهتهم، رغبةً مني في استطلاع ما يمكن أن نصل إليه.

استجوبني القائد سريعاً. قال «علاش إنتي هنايا». بمعنى لماذا أنت في تونس. قلت «أنا أعمل صحافي من السعودية، جئت لتغطية مؤتمر يُعقد في تونس لأصدقاء الشعب السوري». كانت الثورة قد اشتعلت في سورية ضد نظام بشار الأسد. قال علي تفتيشك ذاتياً. حينها نهر الصديق الجميعة الجندي الآخر، الذي هم بتفتيش المركبة ذات الأرقام الدبلوماسية. تراجع للوراء. فتشوني ذاتياً. أعاد لي جواز سفري. قلت لسيد نقطة التفتيش «لماذا أنت جاف المعاملة شاحب المُحيا». أجابني «جميع العالم العربي ضحايا ثورات وانقلابات وعسكرة، إلا أنتم في السعودية والخليج». قلت له «فهمت السبب. لن أناقشك. لدي عمل في الصباح. كثير من أوراق المُنهكين من نظام عسكري في سورية تنتظرني وتحتاج إلى تقليب وتمعن. وقد أواجه المُفكر السوري بُرهان غليون. لدي معه تصفية حساب». سمعته وأنا أهم بالمغادرة يقول لصديقه «غداً سيحتوون بشار الأسد كما احتووا زين العابدين بن علي». كان علي الرد. قلت «يبدو لي أنك مُتأثر بثقافة الغُزاة القادمين من قُبالة المتوسط. ليتك تأثرت بثقافة الحبيب بورقيبة. حتى تعرف ماذا تعني النخوة لدى العرب. دعني أذهب. ليلتك سعيدة».

مباشرةً عبر صديقي الجميعة عن منهجية الإخوان المسلمين. فقد وضعوا حينها الرئيس التونسي «الصوري» المنصف المرزوقي، ذا الرداء المُترهل، وانخدع عامة الشعب بدموعه، حين حلف اليمين في البرلمان التونسي لتنصيبه رئيساً لتونس. وأخذوا بالتغلغل في الدولة الصغيرة وفي أجهزتها. انتابني شعورٌ بالقلق على تلك البقعة الرومانسية، التي ثار شعبها يوماً على حاكمه ونظامه بالورود. خرج رأس النظام زين العابدين وقال «أنا فهمتكم. أي نعم أنا فهمتكم. فهمت الجميع». وفر.

مؤخراً، بات يُخالجني شعورٌ قد يكون مُزدوجا. مُفرحا ومُقلقا. يمكن أن يكون ذلك الشعور مُنبعثاً من نشرات الأخبار التي أمضي يومي على وقعها، باعتباري أعيش بمفردي بعيداً عن أسرتي. أجد أن شعور الفرح مُنبعث من حالة التضييق التي تعيشها جماعة الإخوان المسلمين في تونس، التي تمثلها حركة النهضة، ويعيش رئيسها إطباقاً أشعلته سيدة تونسية حُرّة «عبير موسى» تترأس الحزب الدستوي الحر. تملك السيدة المُنافحة، وثائق تؤكد دعم دويلة قطر، لاستمرار تنظيم الإخوان في بلادها. أعقب موقف تلك السيدة اتهام رئيس الحكومة لحركة النهضة «الإخوانية» بعرقلة سير حكومته وتقويض الاستقرار. سبق ذلك تحالف خمسة أحزاب برلمانية واتفاقها على سحب الثقة من رئيس البرلمان، زعيم الإخوان في تونس، الذي قالت عنه عبير موسى إنه «زور الوثيقة الخاصة بإنشاء حزبه المؤدلج، وإنه مُكلف من الإرهابي يوسف القرضاوي لخدمة أجندات جماعة الإخوان المسلمين». أتمنى أن تفعل عبير ورفاقها، ما فعله الرجال يوماً ما في مصر، حين أزاحوا الجماعة الفاشية من وجه الحكم في مصر. تلك السيدة «كشفت الحقيقة.. ولم يتبق سوى هدم المعبد».