يقاس حب الأمم للحرية بحبها للفنون الجميلة لأن الصناعات والعلوم النفعية مطلب من مطالب العيش تساق إليه الأمم مرغمة مجبرة، وضرورة من ضرورات الذود عن الحياة، تدفع إليها مغلوبة مسخرة، فالأمم كافة تحرث الأرض وترفع الماء وتحفر المناجم وتنشئ الأسواق، وتبني على ذلك ما تبني من علوم في الزراعة والهندسة والاقتصاد، لأنها محتاجة إلى ذلك كله لا حيلة لها في دفعه ولا طاقة لها بالتواني فيه، والإعراض عن إلحاح دعوته، بل أمره مثلها في ذلك مثل من يأكل الطعام لأنه يجوع، ومن يشرب الماء لأنه يظمأ، ومن يتدثر باللباس لأنه يحس لذعة القر ورعدة البرد، ومن ينام لأنه يشعر بالتعب ينهكه ويتمشى في عروقه وأوصاله، ومن يعمل أي شيء لأنه لا يملك أن يدع عمله ولا يختار ما يشتهيه ويريده – وهذه عيشة لا يكون فيها الإنسان إلا عبدا للطبيعة، مكتوفا موثقا، لا يمد يده ولا يرخيها إلا مجذوبة بالقيد في حالي المد والإرخاء، وإنما تعرف الأمم الحرية حين تأخذ في التفضيل بين شيء جميل وشيء أجمل منه، وتتوق إلى التمييز بين مطلب محبوب ومطلب أحب وأوقع في القلب وأدنى إلى إرضاء الذوق وإعجاب الحس. ولا يكون ذلك منها إلا حين تحب الجمال منظورا أو مسموعا وجائلا في النفس، وممثلا في ظواهر الأشياء، وذلك الذي عنيناه بحب الفنون الجميلة. فلا يخدعنك صياح الأمم باسم الحرية ولا تغرنك عظمة صناعتها، وارتقاء علومها، إذ الحق الذي لا مراء فيه أنه لا حرية حيث لا يحب الجمال، ولا أنفة من الاستعباد حيث يطبع الإنسان على أن لا يطلب من الأشياء إلا ما يضطر إلى طلبه، ولصورة واحدة قيمة تعجب بها الأمة وتجل عملها، أدل على حرية هذه الأمة في صميم طباعها من ألف خطبة سياسية وألف مظاهرة وألف دستور يشرع لها على الورق ولا عاصم له من نفوس أهلها، ولا أثر لحقوقه في معاملاتها. وليس بالباحث حاجة إلى طويل بحث أو عظيم عناء في تعرف نصيب الأمم من الحرية والعزة، إنما حسبه أن يسأل عن متحف من متاحف الفن فيها، فإن لم يجده فقد عرف الحقيقة من أوجز طريق وإن وجده ففي تلك الدار التي يجده فيها أنا الضمين له أن يلمس من مخايل الأمة، والدلائل على شعورها وخطرات نفوس أبنائها في لحظة، ما يغنيه عن درس تاريخها وسبر حاضرها وإعنات الذهن في التكهن بمستقبلها. ولا سبيل البتة إلى الخطأ في حكم هذا المقياس إلا أن يكون الناظر قليل الخبرة بمقاديره وأوضاعه، ولم ننس أن الإنسان مسوق إلى حب الجمال حين يحبه بسائق لا سلطان له عليه، ولا نسينا أن التعلق بالجمال الحي ربما بلغ بصاحبه أن يكون علاقة من علاقات الأسر الممض المرهق لا قبل له بالخلاص منها، وانتزاع نفسه من ربقتها، ولكننا نذكر هذا ولا يمنعنا ذكره أن نرى فرقا ظاهرا بين من يساق إلى الاختيار والانتقاء، ومن يساق إلى الطاعة العمياء، فالإنسان في هذا العالم مسخر لا محالة حتى حين يختار ويريد، ولكنه إذا كان لا بد لنا من وصف بعض حالاته بالحرية والطلاقة، فتلك الحال لا تكون في أمر من الأمور أظهر منها في ميوله الفنية ورغباته التي لا دخل للنفع فيها. ولن ترى الإنسان أكمل حرية ولا أطلق إرادة مما تراه في موقف التمييز بين شيئين جميلين، كلاهما غير ضروري لجسده وإن يكن محببا إلى نفسه. ثم ينبغي أن نفرق أبعد التفريق بين تمييز الجمال والتعلق بالشيء الجميل، فإن التعلق من الهوى، والهوى ضرب من الضرورة القاهرة، أما التمييز فلا ضرورة فيه أو هو أبعد ما يكون عن عسف الضرورة وجبروتها. فلا حرية إذن للإنسان أرقى وأكمل من حرية التمييز بين محاسن الأشياء، ولا حرية لأمة ليس لها نصيب من الفن الجميل. على أن للفنون الجميلة أيضاً مقياسا من الحرية لا يضل فيه القياس، فلك أن تقول إنها كلما ازداد نصيبها من الحرية، سمت طبقتها في الجمال والنفاسة، وأنها كلما قل نصيبها منها ابتعدت عن طبيعة الفن الجميل، واقتربت من الصناعات النفعية والشواغل الضرورية. فلهذا كان التقليد في الفن قبيحا مزريا لأنه من العبودية لا من الحرية، وكان الاكتفاء بالنقل عن الطبيعة أضعف مراتب الفن وأسخف مجهوداتها، لأنه من عمل الآلات الجامدة لا من عمل النفوس الحية الشاعرة. ولا يكون الفن فنا جميلا عاليا إلا حين يصبغ الطبيعة بصبغة النفس التي تراها وتمثلها للناظرين، جامعة بين كمال الطبيعة وكمال الحياة، فلو أنك فتشت عن علة تجعل للتصوير الرمزي مكانه الأعلى بين فنون التصوير، لما وجدت لذلك من علة غير وفرة نصيبه من حرية النفس، ولاسيما حين يرمز إلى المثل العليا، إذ كانت المثل العليا أرفع الآمال وكانت الآمال أظهر مظاهر الحرية الإنسانية.