شاب علاقة الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود ـ طيب الله ثراه ـ مع الإنجليز لغط كثير، وأخذ ورد، وكثير من الأقاويل التي جانبت الصواب وذهبت في اتجاهات عدة أغلبها كذب، وتم تداولها وتكرارها بشدة حتى بات البعض يعاملها لكثرة تداولها معاملة الحقيقة.

كان الملك المؤسس ماهرا للغاية في قراءة الأوضاع الدولية، دقيقا في النفاذ بين دهاليزها، ونجح في تجييرها لصالحه، فبنى دولة، وكانت له مواقفه كحاكم فذ من بريطانيا ومواقفها منه، والوثائق تؤكد أن بريطانيا لم تكن تريد يوما وجوده، لكن بحنكة السياسي، ورغما عن إرادتها نجح في بناء دولة وتوحيد أمة.

وتناولنا بالأمس وقبله كيف نشأت علاقات الملك المؤسس مع الإنجليز الذين اكتفوا بالمراقبة في البداية، قبل أن يبدأ تواصلهم الأول معه، ونكمل اليوم بالحديث عن كيف نجح في المناورة مع الجميع، ونجح في تثبيت أركان دولته.

في الحرب العالمية الأولى

دارت مفاوضات كثيرة بين الملك عبدالعزيز من جهة، وكل من بريطانيا والعثمانيين من جهة أخرى.. كل تلك المفاوضات بينه وبين الطرفين وإن كانت زادت من إقدام حكومة الاحتلال الإنجليزي في الهند على التشجيع على التواصل معه إلا أن الكلمة النهائية بقيت للحكومة في لندن، حيث استقروا على: البقاء في منأى عن عبدالعزيز، وعدم التفريط في تركيا من أجله، أما الأتراك فقد خطبوا وده وكوَّنوا لجنة للتفاوض معه برئاسة طالب النقيب التقى بهم في الصبيحية إحدى ضواحي الكويت في 7/6/1332 للهجرة يوافقه 3/5/1913، والتقى قبلهم بمندوب بريطانيا التي كانت تريد تكوين جيش من ابن سعود وابن صباح وخزعل الكعبي ليقوموا نيابة عنها باحتلال البصرة من يد حليفتهم تركيا، وكان موقف ابن سعود رافضاً لهذا الاقتراح، فأخبره المندوب بالتفصيل بالاختلاف حول التعاون معه بين الحكومة المركزية وحكومة الهند وأن القرار هو قرار لندن، وفي الصبيحية وقَّع الاتفاق مع الدولة العثمانية، والذي عُرِف باتفاق الصبيحية، وخلاصته: اعتراف الدولة العثمانية بسلطة ابن سعود المطلقة على ما تحت يده واعترافه لها بالخلافة.

لكن البريطانيين انقلب عليهم الوضع، فقد قامت بعد ذلك بقليل الحرب العالمية الأولى وأعلنت عليهم الدولة العثمانية الحرب، وأصبحت حليفة لألمانيا وإيطاليا، وهنا لا شك أنها ندمت على رفضها لأي تواصل مع ابن سعود الذي أصبح يسيطر سيطرة كاملة على منطقة من الخطير جداً أن تتخذها ألمانيا وتركيا منطَلَقا لهما، لذلك بادرت بإرسال أول موظف من موظفيها التقى سابقاً بابن سعود وأوصى بالتواصل معه ورُفِضت توصيته وهو النقيب وليم شكسبير الذي قدم مرة ثالثة إلى الملك عبدالعزيز في أوائل عام 1333 للهجرة يوافقه أواخر عام 1914، وكان ابن سعود على وشك خوض معركة جراب بينه وبين ابن رشيد.. التقى شكسبير بالسلطان عبدالعزيز، وطلب منه إعلان الحرب على ألمانيا وتركيا، ورفض ابن سعود ذلك، لكنه وعد بالحياد، وكتب شكسبير تقريره وأرسله إلى الكويت من معسكر السلطان، وأصر على المشاركة في حربٍ لا ناقة له فيها ولا جمل بزيه الإنجليزي فكانت سبب نهايته حيث قُتِل في معركة جراب.

والحقيقة: أن ابن سعود التزم الحياد في الحرب العالمية، بمعنى أنه لم يُعلن الحرب ضد ألمانيا وتركيا، ولم يعلنها ضد بريطانيا وحلفائها، لكنه كما يذكر جمال باشا قائد الجيش الرابع العثماني في مذكراته أمَدَّ الدولة العثمانية بـ14 ألف جمل لجر المدافع وحمل المؤن العسكرية، وذلك في حملتها لطرد الإنجليز من قناة السويس، وهي الحملة التي لو نجحت لتغيرت نتيجة الحرب الكونية الأولى مبكراً، لكنها فشلت بسبب الشريف الحسين وولده فيصل.

الذي لم يذكره جمال باشا هو أن الدولة العثمانية خانت السلطان عبدالعزيز مباشرة بعد توقيعه معاهدة الصبيحية معها، وعلم عبدالعزيز بهذه الخيانة بعد بداية الحرب العالمية من عدة جهات أهمها خصمه سعود بن رشيد، إذ أرسل له عبدالعزيز كما أرسل لقادة الجزيرة العربية الآخرين رسالة يُذَكِّرهم فيها بأن هذه الحرب ليس لهم فيها صالح ويقترح عليهم الاجتماع لتحديد موقفهم، فكان جواب ابن رشيد أنه تبع الدولة «العثمانية» يعادي من عادت ويصادق من صادقت، وأنها أعطته عشرة آلاف بندقية سوف يكسرها على رؤوس أصحاب عبدالعزيز.

وعلى الرغم من هذه الخيانة التي تسببت في هزيمة ابن سعود في معركة جراب إلا أن عبدالعزيز لم يقابلها بخيانة مماثلة، وقدم للدولة ذلك الدعم العظيم في حملة ترعة السويس المتقدم ذكرها.

معاهدة دارين

في ذي القعدة من عام 1332 للهجرة يوافقه أكتوبر من عام 1914 نجح البريطانيون باحتلال العراق وانتزاعه من أيدي العثمانيين، وبعد ذلك بثلاثة أشهر تقريباً فشل العثمانيون فيما عُرف بحملة ترعة السويس التي تحدثنا عنها قبل قليل، فأصبح عبدالعزيز محاطاً ببريطانيا من جميع الجهات، بمستعمراتها في الشمال والشرق والجنوب وبحلفائها في الغرب، هنالك التقت الرغبتان في توقيع معاهدة بين الطرفين بدأت المفاوضات حولها بعد وصول تقارير شكسبير إلى الإدارة البريطانية، ومن أعجب هذه المراسلات إلى نفسي تلك التي أرسلها عبدالعزيز إلى رئيس الحكومة البريطانية في الهند يخبرهم فيها أن دولته التي سيعلنون الاعتراف بها بموجب المعاهدة المزمعة ستحكم بالشريعة الإسلامية، وانتهت المفاوضات وتم الاجتماع للتفاوض المباشر حول الصيغة النهائية للمعاهدة والتوقيع عليها في جزيرة دارين قرب مدينة القطيف في تاريخ 18/2/1334 للهجرة يوافقه 26/12/1915 للميلاد، وهي معاهدة ممتازة، من يقرؤها بإنصاف وهو يعرف الظرف السياسي والعسكري الذي تم توقيعها فيه لا شك سيُعجب بعبدالعزيز وقدراته التفاوضية.

ولا أعلم كيف قرأها حافظ وهبة وأحمد عبدالغفور عطار والزركلي وغيرهم حتى ينتقدوها، وقد سبقني إلى العجب الأستاذ جلال كشك رحمه الله في كتابه السعوديون والحل الإسلامي، وأطال في التحليل والمقارنة للتأكيد على خطأ وهبة ومن تبعه في رأيه، لكنه نحا منحى أشبه بالاعتذار لعبدالعزيز بظروف الوقت، لكننا بقراءتنا لبنود المعاهدة لا نجد فيها أي مادة تشير لضعف الملك عبدالعزيز أمام الظروف السياسية والعسكرية التي لم تكن من صالحه في مقابل بريطانيا.

فبموجب المعاهدة تعترف بريطانيا بسيادة عبدالعزيز وسيادة آبائه وسيادة أبنائه من بعده على نجد والأحساء والقطيف والجبيل وما يتبعهما، وتلتزم بحمايته حينما يتعرض لأي اعتداء كما يلتزم بعدم التعرض لمستعمراتها، وهذه البنود الكاسب الأكبر فيها هو عبدالعزيز، ثم هناك بنود معلومة بالضرورة، وهي حماية الحجاج العابرين إلى الديار المقدسة، وأن يتعهد بأن لا يُسلِّم أي جزء من بلاده لأي دولة أخرى.

المادة الوحيدة التي أعتقد أن ملاحظة وهبة ومن تبعوه كانت عليها هي الثالثة، والتي تلزم عبدالعزيز بعدم الدخول في أي معاهدة مع أي دولة قبل استشارة بريطانيا، والحقيقة أن ابن سعود وافق على هذا البند لأنه ليس في حاجة إليه، وأي دولة سيحتاج عبدالعزيز إلى التعاهد معها وبريطانيا تحيط به من الجهات الأربع!.

إن المعاهدة لا تحتوي على أي التزام لبريطانيا بوجود عسكري، ولا أي التزام بمساعدتها بأي قوات سعودية في نزاعاتها، ولا بتأمين أيٍ من شواطئها لعمليات بريطانيا العسكرية، وليس في بنود المعاهدة أي إلزام لعبدالعزيز بالتخلي عن اتفاقياته السابقة، وهي تحديداً: اتفاقية الصبيحية بينه وبين العثمانيين، فقد ظلت سارية وعمل بها عبدالعزيز حتى سقطت الدولة العثمانية.

وليس في بنود دارين ذكر لتأمين التجارة أو العمليات البحرية البريطانية في الموانئ السعودية.

بل إن هذه المعاهدة يُعْتَبَر بها عبدالعزيز أول حاكم مسلم في العصر الحديث تعترف الدول الاستعمارية الكبرى باستقلاله دون أن يُقَدِّم لها أي تنازل، حتى أنه لم يقدم لها الحق في إرسال مقيم بريطاني أو سفير أو قنصل، ولم يعطها ولو حُجْرة على الساحل ترفع عليها علمها، فمن أين للبعض أن يأتي ويزخرف القول ويدَّعي أنها كانت معاهدة حماية أو يُشَبهها بما مضت عليه سُنَّة المعاهدات البريطانية مع بيع البلاد الإسلامية وغير الإسلامية وحتى معاهداتها مع الهند والصين اللتين هما أكبر من نجد والأحساء مئات المرات، وقد أحسن جلال كشك في رده على نظرية الحماية التي يرددها البعض تعليقاً على هذه المعاهدة أيما إحسان وحديثه هناك مما تجدر قراءته ونشره.

للعودة للحلقة (1)

للعودة للحلقة (2)