تعيد قضية الهارب سعد الجبري الذي تلاحقه السلطات السعودية بتهم الفساد والتسبب في إهدار ما يقارب 11 مليار دولار من الأموال الحكومية، التأكيد على ثبات المبدأ السعودي في محاربة أوكار الفساد كافة، وأن كلمات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بأن سيف العدالة سيطال كل مفسد «كائنا من كان» قد تحولت إلى أسلوب عمل تنفذه الجهات المختصة بمنتهى الحزم والدقة، وأن المملكة تخطو في طريق الشفافية والنزاهة الذي اختطته لنفسها بخطوات ثابتة وإصرار على ملاحقة كل من سولت له نفسه بالاستيلاء على المال العام وتحويله لمنفعته الشخصية أو لمصلحة أقاربه ومعاونيه.​

بدءا يجب الإشارة إلى نقطة في غاية الأهمية، وهي المنصب المرموق الذي كان يشغله المذكور، وطبيعة الملفات الحساسة التي كان يمسك بها أو التي كان على اطلاع مباشر بتفاصيلها، حيث كان المسؤول الثاني في وزارة الداخلية لفترة طويلة، لكن ذلك لم يمنع السلطات عن ملاحقته، لأن اجتثاث الفساد أصبح منهجا يجري تنفيذه دون أي تردد. كما أن سلوك المملكة لطريق القانون واتباعها الإجراءات المتعارف عليها دوليا في هذا الشأن يثبت من جديد حقيقة أنها دولة قانون في المقام الأول، لا يحول بين تطبيقها للعدالة أي عائق، بغض النظر عن المفسد أو مكانته، تطبيقا لحديث المصطفى المعصوم عليه أفضل الصلاة والسلام «إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد... إلخ الحديث».​

كذلك ينبغي الانتباه إلى أن تلك الأموال المنهوبة هي في الأصل أموال تم تخصيصها لغاية نبيلة، وتحقيق هدف سام حرص على تحقيقه الملك عبدالله بن عبدالعزيز، رحمه الله، وهي مكافحة آفة الإرهاب التي أطلت على العالم برأسها عقب تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001، لذلك فإن نهبها وتوجيهها إلى غير الهدف الذي خصصت لأجله يجعلها عرضة لاستخدامها في الجانب المعاكس تماما، وهو تمويل الإرهاب، فمن المعلوم أن دعاة العنف والتطرف استفادوا في تنفيذ أعمالهم الإجرامية من مثل تلك الأموال غير المشروعة، لذلك فإن جهود المملكة لاستعادتها ومحاكمة من اختلسوها ستجد حتما دعما دوليا كبيرا، لأن هناك العديد من الاتفاقيات التي تحكم هذا الأمر.​

في ذات الإطار فإن قضية الجبري ليست مجرد ملاحقة لمسؤول متهم بالفساد واختلاس المال العام، بل هي رسالة واضحة المعالم، مفادها أنه ليست هناك حصانة لمفسد، ولا يوجد أحد فوق القانون، وأن المملكة التي حققت خلال الفترة الماضية نجاحا مشهودا في مجال محاربة الفساد سوف تتابع سيرها بإصرار أكبر وعزم أشد، ولن يثنيها عن ذلك ما يحاوله البعض من عرقلة التوجه نحو إقرار مبدأ الشفافية والنزاهة، لأن الفساد صفة سالبة موجودة عند البعض، بحسب النزعة البشرية. وأن من لم يستوعبوا الرسالة ولم يحسنوا قراءة مفردات هذه المرحلة الزاهرة من تاريخ المملكة، وتوهموا أن بإمكانهم الاستمرار في ممارساتهم المنحرفة التي اعتادوا عليها، والإفلات من المساءلة، سوف يمثلون لا محالة أمام منصات العدالة، مهما كانت شخصياتهم وأسماؤهم، لأن مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، ومقدمة على كل ما سواها.​

ومع أن القضية شأن سعودي بحت، إلا أن هناك العديد من الحيثيات والجزئيات التي ينبغي التوقف عندها، وهي إصرار الجانب الكندي على عدم تسليم الجبري لسلطات بلاده التي تريد تقديمه لمحاكمة عادلة نظير ما اقترفت يداه من مخالفات واضحة مثبتة بالأدلة القاطعة والمستندات الدامغة.​

لكن أوتاوا تجاهلت كل ذلك وتمسكت بعدم تسليمه، سيرا منها على النهج الذي اختارته منذ فترة بممارسة الكيد السياسي للمملكة، وإن كان ذلك على حساب ما تدعيه من حرص على مبادئ النزاهة والعدالة، وتقيد بنصوص القانون الدولي، وهو تصرف غريب، ومع التسليم التام بأن المملكة سوف تستعيد مواطنها، طال الزمن أم قصر، وسيجد نصيبه من الجزاء العادل، وأن فجر الحق سيشرق يوما ما، وأن السلطات السعودية لن تتوقف عن سلوك الطرق القانونية كافة، التي تعيد لها حقوقها التي لا جدال عليها، إلا أن الموقف الكندي يستدعي التوقف عنده، فما هي المصلحة التي ترجوها أوتاوا من تصرفاتها وتمسكها بسياسة العناد؟ ولأي غاية تضحي بمصالحها الاقتصادية المتبادلة مع دولة بحجم المملكة؟ ولماذا تتمسك حكومة رئيس وزرائها جاستن ترودو بهذا النهج الذي يتعارض مع كافة المواثيق الدولية؟ وهل باتت كندا في عهده موطنا لكل من لفظه وطنه أو أثرى على حساب شعبه؟​

أيا كانت الدوافع وسوء النوايا، ومهما بلغ حجم الاستهداف وحاول البعض التطاول وحجب ضوء الحقيقة بغربال مهترئ، فإن ذلك لن يثني القيادة السعودية عن مواصلة رحلة القضاء على أوكار الفساد، فهي ستمضي حتما في طريقها بكل عزيمة، لتثبيت مبادئ النزاهة والشفافية، وإرساء أسس المحاسبة والمساءلة، وإقرار مبادئ العدالة والمساواة، دافعها في ذلك ثقتها في ربها أولا، ثم وقوف شعبها ودعمه لهذا النهج القويم الذي يزداد كل يوم رسوخا وثباتا، لن يثنيها عن ذلك ألاعيب الصغار ومحاولات التشويش وأصوات الباطل التي تحاول عبثا ودون جدوى إنكار الحقائق. وسيكتب التاريخ بأحرف سوداء كالحة سيرة من رهنوا ذواتهم للشيطان، واستحلوا المال الحرام، وارتضوا لأنفسهم لعنات المؤمنين من شعبهم، نظير دراهم معدودات، مهما بلغت وتكاثرت أرقامها، فإنها لن تسمنهم ولن تغنيهم من جوع.