يُعيد التاريخ نفسه بين الحقبة الإمبراطورية، وهذا الوقت. العنصر الأهم في ارتباط الحقبتين هو «القبح الأخلاقي» بين الأجداد والأحفاد. مئات السنين قامت على الأحقاد، والنظرة الدونية، لعالمٍ عربي يمتلك الطاقة وعصب الحياة، ولا يتمتع بالاتفاق على توافه الأمور. اللعاب التركي لم يتوقف منذ أن شهد العالم العربي ما تم تسميته ربيعاً عربي. في الحقيقة هي حالة فوضى أو خصام دبّ بين أنظمة حكمٍ وشعوب اعتادت على التهميش و«البسطار العسكري»، في جمهوريات تدّعي الديمقراطية. أسوأ ما في ذلك النظام السياسي «الديمقراطية» أنه يُجبر العقلاء على سماع أصوات الحمقى.
يسعى نظام أنقرة إلى التوغل في ليبيا لاستعادة إرث الأجداد، ونهب ثروات الشعب الليبي. يريد من الكعكة السورية نصيبه، وإلا فلاجئو سورية الذين باتوا فزاعةً بيد رئيس الجمهورية على مرمى حجر من البوابات الأوروبية. يعتمد على زرع الفتنة ودعم الفرقة بين أبناء الشعب الواحد. يعتبر الرغبة المصرية في الدفاع عن الشعب الليبي، المبنية على تفويضٍ من القبائل الليبية تدخلاً. ويضع تدخله في الصراع بين الإخوة في ليبيا نصرةً للشرعية التي تجسدها حكومة الوفاق «الإخوانية»، التي قامت بناءً على اتفاق الصخيرات المغربية في ديسمبر 2015. في ذلك مرضٌ يُدعى «انتقائية».
لكن الرفض الذي يلقاه التدخل التركي في ليبيا من قبل القبائل الليبية سيعود بالويلات على نظام أنقرة. طال الأمد أو قصر. قلت في مقالٍ سابق إن صبيان إردوغان سيقعون في فخ القبائل الليبية. التركيبة الليبية التي تتشكل من قبائل كبرى، لها الكلمة العليا، لا يعيها النظام التركي الباحث عن نفوذ وموطئ قدم. وربما لا يُعيرها اهتماما. في المقابل تدرك القاهرة وجهاز مخابراتها النشط، حساسية وثقل القبائل الليبية. وبناءً على ذلك قالت القاهرة على لسان رئيسها عبد الفتاح السيسي «لن نقف مكتوفي الأيدي إذا هوجمت سرت». الدفاع عن الأمن القومي المصري أولوية لدى الإدارة المصرية. يستند السيسي في ذلك الحديث على تفويض 150 من زعماء كبرى القبائل في ليبيا. وتقوم النبرة المصرية العالية على رفضها بأن تصبح ليبيا بؤرةً للإرهاب. وكان السيسي على يقين بموافقة البرلمان المصري بالإجماع على السماح للقوات المصرية بالدفاع عن أمنها القومي. أتصور أن القاهرة بلغت أقصى درجات الشفافية حين سمّت التدخل التركي بـ«الغزو». وفي ذلك القول كُل الحقيقة المرعبة للمرتزقة «انكشارية إردوغان».
نحن أمام حالتين لكل منهما الحسابات السياسية الخاصة. الأولى تقوم على وضوح مصري مبني على رغبة فئة كبرى من الليبيين في حمايتهم والدفاع عن بلادهم. بالسلاح المصري وقبل ذلك بالرجال. والثانية تقوم على جشعٍ تركي يستند على الدفاع عن سياسيين نهبوا البلاد والعباد، وترفضهم الشريحة الكبرى من أبناء جلدتهم، تُضاف إليها الأطماع التركية في الطاقة الليبية والبحث عن نفوذ يُعيد إرثاً بغيضا. في الأولى قوة وحكمة. وفي الثانية جُبنٌ وصفاقة. بعض العقلاء من الأتراك لم يقفوا مكتوفي الأيدي، كرئيس الوزراء التركي الأسبق داوود أوغلو، الذي حذر من المواجهة مع مصر. يرى أنها ليست في مصلحة أنقرة. وهذا صحيح.
يجب القول هنا إنه بطبيعة الحال المواقف المصرية المتعلقة بليبيا تلقى الدعم المطلق من الرياض. ربما هذا ما يؤكده الاتصال الهاتفي الذي أجراه وزير الخارجية السعودي بنظيره المصري. والاتصال الذي جمع نائب وزير الدفاع الأمير خالد بن سلمان بوزير الدفاع المصري. رفض المساس بالأمن الإقليمي العربي كان العنوان العريض للمكالمتين. مصر بكل تأكيد هي العمق لاستقرار العالم العربي. بالنظر إلى فحوى الاتصالين يتأكد أن المملكة لا تتوانى عن حرصها على الأمن والاستقرار المصري. ولا تخشى من رفض التدخل الأجنبي في الأزمة الليبية. الرسالة واضحة. والعنوان أكثر وضوحا. فالقاهرة لم تعتدِ على أحد. ولم تسلب حقاً من أحد. كل ما تسعى إليه الحفاظ على أمنها القومي وحرية شعبها. وهذا حقٌ وليس منحةً من أحد. من يتخلى عن أمنه وحريته لا يستحق أياً منهما.
أنا على يقين مُطلق أن أصدق المواعيد موعد الموت. ولا أجمل من ذلك الموعد دفاعاً عن أرضٍ وعرض. وأجزم أن جميع أبناء مصر مُتشوقون لذلك الموعد. وأدرك أن أنقرة ستستفيق يوماً ما بعد سكرةٍ طال أمدها، على وقع حالة غضب سيشعل فتيلها الأتراك أنفسهم، الذين خضعوا لشخصية «سفسطائية» تعتقد أنها الأذكى، بينما هي الأغبى. هكذا هو إردوغان. خالف كل شيء. حتى الطبيعة التي تفترض انتقاء الأصدقاء. لم يعد قادراً على انتقاء الأصدقاء.. في زحام الأعداء.