تحت أشعة الشمس الساطعة قصدت الدار البيضاء بحثا عن كتب جديدة. ولكن قبيل ذلك تسكعت في الشوارع والدروب المحيطة بمسجد الحسن الثاني. رحت أضيع في أزقة ومنعطفات. حياتي كلها تسكعات. أجمل حياة في العالم. رأيت الشعر بأم عيني في طرف الشارع فعانقته وعانقني وشربنا معا فنجان قهوة على الكورنيش العريض، وأطللنا اطلالات رائعة على البحر المحيط. وحدقنا تحديقات مرعبة في الوجود أو عدم الوجود، وعشنا لحظات استثنائية تفوق الوصف، ثم قفزنا من فوق «الماروك مول» كله إلى أعماق البحر وانتشلنا سمكة الكورونا. يا الهي ما أحلاها! عروس! أخذت تزلغط وتتراقص بين أيدينا. ثم طوقتني بذراعيها وقبلتني بكل غرام وهيام قبلة عميقة على شفتي. هل تعلمون ماذا حصل؟ ماتت الكورونا.

قال لي الشعر: أنا موجود في كل مكان ولكن لا أحد يراني. أنا منبث في الماء والهواء والأجواء. أنا موجود في الشوارع الخلفية التي لا يرتادها أحد، والزوايا المنسية التي لا يلتفت اليها أحد. أنا ملقى على قارعة الطريق. أنا معلق كالخرقة على شرفات المنازل والبيوت. أنا مهجور أبديا. قلت له: هل أستطيع أن أكون الناطق الرسمي باسمك الشخصي أمام المحافل الرسمية والجهات المختصة؟ فصرخ محتدا: ما هذا الهراء؟ من أنت حتى تتحدث باسمي الشخصي؟ وحدهم الشعراء الكبار يحق لهم أن يتحدثوا باسمي أما أنت فنكرة من بين النكرات، ومجهول المجاهيل. أنت لا شيء على الرغم من فذلكاتك المعروفة وألاعيبك المكشوفة. سمعت مؤخرا أن أوضاعك أصبحت بائسة جدا: من تدهور إلى تدهور، لا أمل ولا عمل، لا أفق ولا مستقبل. الضباع تتكالب عليك وتكاد تنهشك، الله يساعدك. طيب ماذا أستطيع أن أفعل دكتور؟ لا شيء. بصراحة حالتك ميئوس منها. إما أن تنتحر وإما أن ينحروك. ولك الخيار. البحر من ورائكم والعدو من أمامكم. والله سيحرقون أنفاسك حرقا. يعني دكتور ما في نتيجة؟ لأ في نتيجة، كيف ما في نتيجة؟ النتيجة أنك ستُزهق زهقا وتُمحق محقا وتصبح هباء منثورا. يا الهي يا دكتور أرجوك دبرها.. لا تناقشني سيد هاشم! لا تعالجني! أزفت الآزفة، ولم يبق إلا أن نقرأ الفاتحة على روحك الطاهرة.

ثم صعد من لهجته التقريعية قائلا: عمق جنونك يا هذا ووسعه إلى أقصى حد ممكن وإلا فأقلع عن عملية الكتابة نهائيا. فأنت عقلاني أكثر من اللزوم وجرعاتك الجنونية غير كافية على الإطلاق. جنون العالم أكبر منك بألف مرة. هل سمعت بكورونا؟ سوف تسحق عظامك الكورونا. أيامك أصبحت معدودة. سيدي: كل خمس دقائق أتلمس رقبتي وحلقومي وأقول وأنا في حالة من الرعب لا تكاد توصف: وصلت؟ ما وصلت؟ أعتقد أن الخوف منها هو الذي سيقتلني وليس هي. ما رأيك؟ لماذا يحصل لي ذلك؟ لأنك جبان رعديد. أمثالك لا مكانة لهم على سطح الأرض. أين الرجولة والشهامة والفخامة؟ أين عنترة وأبو زيد الهلالي؟ فلا قرت أعين الجبناء. ثم أردف: أنت شخص لم يصل بعد إلى القعر أو قعر القعر. من هنا سر قلقك وعذابك. سر تخبطك. لم تحفر بعد بالعمق المطلوب. أحفر أحفر، عمق عمق، دمر نفسك بنفسك، حرر حالك من حالك. أنت مثقل بحالك أكثر من اللزوم. أنت تدور في حلقة مفرغة منذ 50 سنة دون أن تجد مخرجا. صح أم لا؟ صح سيدي. ولذلك أنصحك بالتالي: لكي تصبح شاعرا ينبغي أن تموت ألف موتة قبل أن تكتب قصيدة واحدة لها معنى كما قال ريلكه لشاعر شاب. وأنصحك أيضا: واصل معركتك ضد الظلامية الدينية ولا تحد عنها قيد شعرة. ولكن سيدي: لأنهم يحاولون تشويه صورتي والتلاعب بها عن طريق بعض المقابلات التلفزيونية التي أذهب إليها بكل براءة غير عارف بخلفياتها (ما عدا سكاي نيوز عربية لحسن الحظ. تحية للأصدقاء الشرفاء هناك. تحية أيضا إلى الصديق العزيز أكرم خزام). فبماذا تنصحني؟ بلا شيء. أحمد ربك على السلامة. على الأقل لم يقتلوك حتى الآن. هل تعتقد أنهم سيستقبلونك بالأزاهير والورود؟ إنهم يعرفون أنك تستهدف عقيدتهم التكفيرية التي أصبحت عالة على العالم مثل الكورونا. وبالتالي فشيء أن تصبح في الدائرة الحمراء للخطر. هم لن يتراجعوا، وأنت لن تتراجع. المعركة مفتوحة.

ثم أردف: ينبغي أن تعلم أنهم يمتلكون ما يمكن أن ندعوه «بأسلحة الدمار الشامل»: أي الفتاوى اللاهوتية القديمة المسيطرة على عقلية عامة الشعب بل وحتى عقلية قسم كبير من المثقفين أو أشباه المثقفين. انظر جماعات الربيع العربي الموهوم. انظر جماعات الغنوشي الذين يكادون يدمرون تونس أو يعيدونها قرونا إلى الوراء. وبإمكانهم أن يستخدموا هذه الفتاوى الصدئة ضدك وضد غيرك في أي لحظة. وبالتالي فالمسألة أكبر منك ومن شخصك المتواضع بألف مرة. ألم يفجروا بلدانا بأسرها عن طريق فتاواهم التكفيرية هذه؟ ألم ينشروا الأحقاد الطائفية والمذهبية على أوسع نطاق؟ ألم يدخل إردوغان وحده 120 ألف جهادي ظلامي من شتى أنحاء العالم إلى سورية لإنجاح الثورة الإخونجية التي تشبهه وتباركه وتنصبه قائدا على العالم الإسلامي كله؟ ثم تصفق لهم قناة الجزيرة وبقية الأبواق الشعبوية الغوغائية بحجة أنه ربيع عربي! يا أخي هل أنت ضد الربيع العربي؟ هل يعقل ذلك؟ مهزلة! فضيحة حقيقية. كل الثورات التي غيرت وجه التاريخ قامت على أفكار الفلسفة التنويرية ما عدا ثورات الربيع العربي المزعوم. كلها قامت على أفكار فلاسفة كبار من أمثال سبينوزا وفولتير وجان جاك روسو وعشرات غيرهم لا على أفكار عتيقة بالية لأساطين الكهنوت المسيحي الذين يشبهون الغنوشي والقرضاوي حاليا. هل يعقل أن تقوم ثورة على أفكار محاكم التفتيش؟ كل الثورات العقلية والسياسية التي أدت إلى تقدم أوروبا وتفوقها قامت على تفكيك الظلامية المسيحية لا على ترسيخها والتشبث بها. كلها قامت على بلورة تفسير جديد كليا للدين المسيحي يختلف عن التفسير التقليدي القديم الموروث. وبالتالي فالسؤال المطروح الآن هو التالي: كيف يمكننا أن ننتزع الإسلام الحنيف من براثن هؤلاء الظلاميين الدمويين؟ كيف يمكننا أن نبلور تفسيرا جديدا لهذا التراث العظيم غير تفسير القرضاويين والإردوغانيين والخمينيين والإخوان المسلمين؟ هذا هو السؤال الأكبر ولا سؤال غيره. هذا هو التحدي الأعظم المطروح على المثقفين العرب والأتراك والإيرانيين حتى عشرين سنة قادمة. عندئذ سوف يحصل الربيع العربي والإيراني والتركي. وعندئذ سيكون ربيعا حقيقيا. دون الانتصار على اللاهوت الظلامي التكفيري القديم لا ربيع عربي ولا من يحزنون.. وبالتالي فالمعركة فكرية ابيستمولوجية أي معرفية عميقة قبل أن تكون سياسية. والانفجارات الشعبية حتى ولو كانت ضخمة ومشروعة ضد الاستبداد والانسداد لن تؤدي إلى نتيجة إذا ما قامت على أفكار طائفية قديمة بالية. هذا هو أكبر درس تعلمناه مما حصل مؤخرا. وقد دفعنا ثمن هذا الدرس باهظا من تدمير البلدان والعمران وإعادتنا إلى العصر الحجري. وبالتالي فلا ربيع سياسي من دون ربيع فكري، ولا ثورة سياسية من دون ثورة تنويرية. ينبغي تنوير العقليات أولا: أي عقلية الشعب وإلا فسوف يظل يركض وراء الظلاميين الخمينيين وغيرهم لى ما لا نهاية. وأخيرا إذا ما أجبرنا على الخيار كمرحلة مؤقتة فالمستبد المستنير أفضل من المستبد الظلامي بألف مرة.

الانفجارات الشعبية حتى ولو كانت ضخمة ومشروعة ضد الاستبداد والانسداد لن تؤدي إلى نتيجة إذا ما قامت على أفكار طائفية، قديمة، بالية، عفى عليها الزمن