تزايد هوس وشغف الأشخاص والجهات في الآونة الأخيرة بلغة الأرقام باعتبارها اللغة التي لا تكذب، وأنها الأصدق والأدق بعيداً عن العبارات الإنشائية والتحليل المستفيض. ولهذا بدأ يعمد العديد من الجهات والأشخاص إلى هذه اللغة تحت ذريعة «الأرقام لا تكذب».

إلا أن المتفحص في واقع تلك اللغة والذي لا يأخذ الأمور كما هي ويسعى دائما إلى تحليل واقع تلك الأرقام ومدلولاتها، يدرك تمام الإدراك أنها ليست اللغة الأمثل دائما! بل إنها تعطي في أحيان كثيرة مؤشرات مضللة وغير دقيقة، وفي كثير من الأحيان يمكن استمالة تلك الأرقام باتجاه زاوية معينة، وتأطيرها في قالب محدد لتصل إلى نتيجة يريد صانع الرسالة إقناع المتلقي بها، بالتركيز على أرقام دون أخرى وربطها ببعضها البعض للوصول للهدف المنشود.

فالركون إلى الأرقام بشكل دائم، وبناء أحكام وانطباعات على ضوئها قد يكون مجحفاً نسبيا. فالأرقام قد تكون مؤدلجة تحمل في تفاصيلها أجندة، بحيث إنه يمكن أن تجمع أرقاما معينة لتحقيق هدف محدد، في حين لو كانت المعلومات موجودة بسرد تفصيلي لأعطت نتيجة مختلفة عن الانطباع الذي تشكل في ذهنية المتلقي. كما أنه من أهم المشككات في لغة الأرقام، هي الآلية التي جمعت من خلالها، وما هي المعايير التي ارتكزت عليها لتظهر بهذا الشكل؟.

فالأرقام بجاذبيتها تجعل المتلقي يركز دائما على القشور دون الغوص في تفاصيل الموضوع. ولهذا بات صناع المحتوى يعتمدون على إغراق نصوصهم بالأرقام، ولكي نفصل في عدم دقة الجانب الرقمي دائماً، لو تباهت محطة تلفزيونية مثلاً أمام مشاهديها بعدد البرامج لديها أو بساعات البث أو بكمية التعاقدات مع أعمال درامية، هي في النهاية أصدرت للمتلقي رقما فقط، دون أن تعطيه تحليلا تفصيليا لتلك الأرقام، بمعنى ما هي مضامين تلك البرامج؟ ما هي الجوانب الابتكارية في ساعات البث وجودة الأعمال الدرامية التي طرحت؟.

حالة الهوس بالأرقام والرصد العددي جعلت أرباب العمل يفكرون كماً لا كيفاً، بمعنى أنهم قد يتباهون في منجزاتهم بأعداد الاجتماعات التي عقدت، وعدد ساعات العمل التي قضيت، دون النظر في جدوى تلك الاجتماعات ومبررات طول ساعات العمل. كما نلحظ مؤخرا التسابق لإطلاق مبادرات وكأنه سباق محموم في من يحقق صدارة المبادرات رقميا، ولا قيمة للأثر في ذلك.

ومن خلال واقع سوق العمل نجد الجهات تعتمد كثيراً على إظهار الجوانب الرقمية فقط، فمثلا تظهر كم معاملة أنجزت شهرياً، أو كم حالة طلب خدمة تلقت، وتذهب بهذه الأرقام في إطار وزاوية محددة، دون التطرق إلى تفاصيل أخرى، مثل هل حجم المعاملات المنجزة تستحق كل ذلك الوقت، أو أن التجاوب وحل إشكاليات طالب الخدمة كان مثاليا؟

تستمر لغة الأرقام في عدم إعطاء وصف دقيق لمجالات عدة، فعلى الصعيد الدراسي ينظر في كثير من الأحيان للطالب على أنه مجرد رقم من حيث نسبته أو معدله دون النظر إلى إمكانياته ومهاراته وكيف وصل لهذا الرقم. كم من أرقام ونتائج لطلاب كانت مضللة لسوق العمل، حيث يفتقد صاحب تلك الأرقام المرتفعة مهارات التخصص، والحال أيضا تنطبق على مجال المنافسات الرياضية، ففي كرة القدم مثلا أرقام الاستحواذ ودقة التمرير، لا تعطي انتصارات وتحقق بطولات، فكم من فريق نسب استحواذه قليلة وظفر بالبطولات، ولا يختلف المجال الفني كثيرا في هوسه بالأرقام، حيث يحرص العديد من الفنانين على التعاطي مع أعماله رقمياً دون قياس الأثر. فالأهم لديه كم عدد الأعمال التي يقدمها، ويتباهى بذلك المنجز الرقمي على حد تعبيره.

وتصديقا على جزئية أن الأرقام لا تعطي مؤشرات دقيقة دائما، نلحظ أن الدراسات البحثية التي تركز على المنهج الكيفي تعطي نتائج أكثر دقة، وتفصيلاً وتحليلاً للموضوع للباحث أكثر من المعتمد على المنهج الكمي.

لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل لغة الأرقام أو تجريد أي محتوى منها، ولكن الحديث هنا هو المطالبة بعدم التركيز الكامل عليها وجعلها اللغة الأوحد لصناعة أي محتوى مؤثر، فالتفسير والتحليل وقراءة مضامين الأرقام لا تقل أهمية عن الأرقام نفسها، لأن الأرقام لا تصدق دائما.