اطلعت على كتاب (العقل المؤمن /العقل الملحد) للغذامي، لم أضع الكثير من الوقت في تقليبه، أعدته لرف المكتبة التجارية، كان مجرد (نقولات انتقائية) بطريقة أعادت لذاكرتي كتاب (حراسة الفضيلة) الذي وازن بين رأيين جعلا الدكتور حمزة المزيني يستعرض بكل أدب رفيع ما على (حراسة الفضيلة) من ملاحظات منهجية وعلمية، لم يستطع كثير من الناس موافقته عليها إلا بعد مضي عشرين عاما على مقاله بصفحات هذه الجريدة العدد (143) من عام 2001م، وكان المزيني متمسكاً بحدود الموضوعية العلمية دون الدخول في تفاصيل الترجيح من عدمه، فكأنما الغذامي يعيد إنتاج (حراسة الفضيلة) بطريقة لا تختلف كثيراً عن الطريقة القديمة التي تعيد إنتاج نفسها عبر النقولات التي تستظهر رأيين تميل في المضمر لأحدهما، سواءً أسترجعت كلام الإمام الطبري أم روت عن ابن عباس رضي الله عنه، أو جاءت بعد عشرين عاما بلسان ثقافي يقتبس عن برتراند رسل ويروي عن ستيفن هوكينج، ففي كتاب (حراسة الفضيلة) كانت الانتقائية تؤدي إلى نتيجة محسومة سلفاً، وقد كشفها (حمزة المزيني) برشاقة وأمانة علمية زادت عليه الأعداء والحانقين آنذاك، وها هو من جديد يمارس نفس الأمانة العلمية مع نفس (العقل) الذي لم يستطع تجاوز (المدرسانية/السكولائية) فعاد إلى ثنائية (الإيمان والإلحاد) بينما الثقافة العالية تؤكد أن الإشكال القادم لشبابنا هو في صراع المفاهيم المختلفة على أقنوم واحد.

أما قضية الإلحاد والإيمان فمن القضايا الفردية وليست من القضايا الاجتماعية، ومن يجعل الإيمان والإلحاد قضية اجتماعية فهو يحول الدين إلى إيديولوجيا شمولية تعيد لنا فظاعات داعش وطالبان، أو يحول الإلحاد إلى إيديولوجيا شمولية تعيد لنا فظاعات لينين وهستيريا الأحزاب الشيوعية في المراقبة والمعاقبة.

الإلحاد والإيمان لا علاقة لهما بالنضج العقلي (الأداتي)، بقدر ما له علاقة بالنضج النفسي، ولهذا فعلى الشباب عدم تضييع (كل) الوقت في قراءة الكتب السجالية بين ثنائية (إيمان/إلحاد)، (فالإيمان والإلحاد لا يزيدان ولا ينقصان بهذه الكتب لا نفياً ولا إثباتاً)، فهذه السجالية بين الفريقين لا تخلو من انتقائية تضيق أحياناً وتتسع حسب الخصم المقابل، فلا يوجد أبيض وأسود، بل ألوان كثيرة تبدأ من إثبات الرب بالمعنى المطلق، مع اختلافات شديدة بين الأديان الإبراهيمية، بل داخل الدين الواحد حول تفاصيل الألوهية الحق، تصل في المسيحية إلى خلاف حول حقيقة المسيح مثلاً، فهناك تحالف ربوبي بين الإبراهيميين ضد من ينفي الرب، ولكن بداخلهم خلاف شديد وشقاق على مفاهيم الألوهية، وبالمقابل تجد الإلحاد ألوانا شتى من العدمية المطلقة إلى اللاأدرية وصولاً إلى اللادينيين ممن ينفون الدين ويؤمنون بوجود رب، عدا الوثنيين الذين يحلمون بخلاصهم عبر النيرفانا.


أعود فأقول: إن النَفَس السجالي بين المؤمنين والملحدين لم ينته منذ آلاف السنين ولن ينته، يضعف أحياناً إلى حد المناظرات والمكاتبات ويعلو أحياناً إلى حد سفك الدم، ولهذا فالانصراف إلى مباحث وكتب (علم النفس الديني) أهم بعشرات المرات من تضييع الوقت في ترافعات قديمة جديدة في مسائل تعود إلى (النضج النفسي) وليس (النضج العقلي)، فالداعشي أسبابه نفسية اجتماعية مثله مثل متطرف مسيحي، ومثلهما الملحد المأزوم من إيمان الناس حوله، وفي كل هؤلاء الأصناف ستجد حملة الشهادات العليا، بينما النضج النفسي يعيد لنا كلمة ابن عربي التي تتجاوز بنا قنطرة الثنائيات الحادة والتي تقول: (ليس في العالم مرض يحتاج لعلاج، بل فيه تعصب يحتاج للتواضع).

أخيراً كتاب الغذامي لا يوصف بالموضوعية من الناحية العلمية، فشرط الموضوعية (احتمال اختلاف النتيجة مع التعمق في البحث) وهذا ما لن ولم يكن وارداً في ذهن الغذامي عند كتابته، فهو إذاً كتاب سجالي ممتاز لهواة هذا النوع من الكتب، التي لن تزيد أو تنقص في إيمان مسلم أو مسيحي أو يهودي، بقدر ما تصنع امتداداً (أفقياً) تحاوله الذات الغذامية على المستوى الشعبوي، ولو عبر هذه السجالية الكلاسيكية جداً بين الإيمان والإلحاد، متناسياً أن النخبة الثقافية من شباب اليوم لم تعد تستسيغ مصطفى محمود وتعتبره أقرب للشعبوية منه للنخبة، وهو من خاض التجربة (كما يدَّعي في كتابته عنها).

أخيراً ومن خلال (التجربة الصادقة) التي عاشها الإمام أبي حامد الغزالي (ت 505 هـ) وطرحها في كتابه (المنقذ من الضلال) نتأكد أكثر أن الإيمان لا يحتاج إلى دليل عقلي ولا إلى كتاب ينفي أو يثبت، فلم يعانِ صناديد قريش من نقص العقل أمام عقول المستضعفين في مكة الذين سبقوهم بالإيمان، بقدر ضعف استعدادهم النفسي عن فقد امتيازاتهم بجوار بلال بن رباح وسلمان الفارسي والعكس، ولهذا الأهم من (الدين) هو كيف (تفكر في الدين)، فما بالك بمن (يفكر بالدين)؟ وبهاتين الطريقتين في التفكير، يتجلى الفرق بين أولي الألباب وأولي العمائم، وضع بعدها ما شئت من أسماء (السهروردي المقتول، جابر بن حيان، الكندي، ابن الراوندي، الرازي، الحلاج، التوحيدي، البيروني، المعري، الفارابي، ابن سيناء، ابن العربي، ابن عربي، جلال الدين الرومي، ابن تيمية، ابن القيم، صدر الدين الشيرازي)، ثم خذ كتاب الغذامي بعنوانه العريض، وقم بتصنيف هذه الأسماء لتكتشف ألوان الطيف فيما ظننته مجرد لونين (حسب العمامة الغذامية).