الكتابة في الصحوة السعودية وتاريخها وفلسفتها، تحتاج إلى الانطلاق من عدة ركائز، لفهمها، ولمعرفة كيف تكونت ثم كيف نشطت وتحركت في مختلف الاتجاهات حتى أضحت منتجا نهائيا قائما بحد ذاته؟! مرورا بالحوادث والتطورات العديدة لهذه الأيديولوجيا المتحولة بشكل مستمر، قبل الحديث عن مفرزاتها، وآثارها، ومآلاتها، وما أنتجته من خطاب، وفي هذا المقال ومقالات أخرى سأحاول تلمس هذه الركائز، والحديث عن بعض المسائل التي تقع في مركز النقاط العمياء التي لا ترى بسهولة.

أولا/‏ المسمى وشرارة الانطلاق: إطلاق مصطلح الصحوة عرف متأخرا، وتم استجلابه للتعبير عن الحراك الإسلاموي أو حراك الإسلام السياسي لتلميع الصورة التي كانت عليها التيارات الإسلامية في المجتمع السعودي، فصار يعبر عن تيار الإخوان بأطيافه وتعدداتهم، والسرورية وفروعها، بالصحوة تجميلا وتحسينا لها في نظر المجتمع.

وأرجحُ أنَّ أول محاولة جادة لإطلاق مسمى «الصحوة»، كانت من خلال مقالتين ليوسف القرضاوي نشرهما في مجلة (الأمة القطرية)، في العددَين التاسع الصادر في رمضان 1401، والعاشر الصادر في شوال 1401.

والصحوة الدينية بدأت فعليّا بإعلان المؤتمر الإسلامي الأول الذي عُقد في مكة المكرمة عام 1962، والذي أُعلن من خلاله إنشاء رابطة العالم الإسلامي، فتهيأت أمام الصحوة بمفهومها العام فرصة كبيرة للبروز والظهور بعد فترة التشكل والتكوّن، ثم تمكنت من الانطلاق السريع في أجواء رحبة وفسيحة بعد عام 1967، أو ما يُعرف بعام النكسة، والذي نتج عنه سقوط ذريع للنظرية القومية في العالم العربي، وذلك بترنح المشروع القومي بعد النكسة، وسقوطه المبرم بعد وفاة عبد الناصر، ولجوء السادات إلى حيلة استخدام الإسلاميين لمواجهة اليساريين والذي بدأ بشكل متصاعد من عام 1971 تقريبا.

كما أنني أميل إلى أن مسمى الصحوة قد أخذ مفهومَين، خاصّا وعامّا، أما الخاص فهو حينما نطلق مسمى الصحوة في المشهد السعودي فهو تعبير منصرف لوصف حراك الإسلام السياسي بمختلف أطيافه في الداخل السعودي، ويخرج منه بعض الحركات الإسلامية التي لا تشتغل بالسياسة، ولكنها تأثرت واستفادت وتقوّت من المدى العام للصحوة في العالم الإسلامي والعربي بالمفهوم العام.

ثانيًا/‏ اللحظة الزمانية للصحوة: استقبل السعوديون القرن الهجري الجديد في جوٍ ديني مشحون، فقد كان هناك نشاط محموم لجماعة تأسست في المدينة المنورة على عين الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- عام 1966 تقريبا، وكان حينها مديرًا للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وأختار ابن باز لها اسم: «الجماعة السلفية المحتسبة»، أما هم فقد كانوا يفضلون مسمى: «جماعة أهل الحديث»، والناس والإعلام لاحقا أطلقوا عليها: «جماعة جهيمان»، وجهيمان العتيبي سليل أسرة من إخوان من طاع الله، أو كما تسميهم بعض المصادر إخوان السبلة، فوالده (محمد بن سيف العتيبي) رفيق سلاح لسلطان بن بجاد أحد أبرز قادة تلك الجماعة.

استمرت الجماعة بعد التأسيس بالقيام بالإنكار العملي، وهو ما لفت أنظار الناس لها وتحديدا الشباب، وكان الحس الديني في ذلك الوقت قد بدأ بالتنامي المتدرج تصاعديا؛ بسبب فتح المجال للعمل ضد الأفكار اليسارية التي كانت منتشرة حينها، حتى جاء العام 1978 حيث تم إيقاف بعض المؤثرين في الجماعة، ولم يكن من بينهم جهيمان، أو بمعنى أدق تمكن جهيمان من التخفي والهرب من الإيقاف حتى تمت تبرئة الموقوفين لكون إيقافهم جاء بسبب تقرير كيدي من أحد أعداء الجماعة، وأن الداخلية نفسها تحقَّقت من أن الذي جاء في التقرير غير صحيح، إضافةً إلى أن الشيخ عبدالعزيز بن باز زكَّاهم عند وزير الداخلية حينها.

وفي عام 1979، تفاعلت عند الجماعة مسألة المهدي أكثر، وكانت سببا في تفادي التناقض بين تحريم الخروج على الدولة وتكفيرها التي لا تقول بها الجماعة، ومسألة أفعال جهيمان وأقواله وكتاباته التي تقول بالخروج على الدولة وكفرها، كما كانت سببا لتجميع الناس والدخول بهم إلى الحرم في القصة المعروفة المشهورة.

وبعد تطهير الحرم من رجسهم، كان الموقف من قِبَل العلماء السعوديين سلبيا وباردا وهامشيا، فلم يحاولوا أن يعيدوا النظر في كثيرٍ من المسلَّمات التي بُثَّت في نفوس الشباب، أو القيام بأي دور لإصلاح الخطاب الديني السائد وقتها، بل اتجهت أصابع الاتهام للدولة التي زعم التيار الديني وقتها أنها فسحت مجالا لإفشاء المنكرات في البلد، ما أجج نفوس الشباب المتدين، ومن هنا، كانت فتنة احتلال الحرم المكي في مطلع الثمانينيات الميلادية، تمهيدا غير مباشر لتعميق دور الإسلام الحركي السياسي في السعودية، على مختلف المستويات، بعد أن أفسحت الدولة المجال واسعا للمناشط الدينية المعتدلة -كما ظنَّوا-، التي استغلتها الصحوة أفضل استغلال.

كانت السياسة (الإخوانية/‏ السرورية)، كما نظَّر لها المنظِّر والمفكِّر الأبرز على مستوى الجماعة العراقي محمد أحمد الراشد (عبدالمنعم العزي) هو الالتفاف حول العلماء الكبار الموثوقين في كل بلد وكل مدينة، ليستفيدوا من مكانتهم لدى الناس ولدى الدولة، وهو ما تم تطبيقه بامتياز من قبل الحركيين السروريين بالمقام الأول ثم الإخوان بالمقام الثاني، وهذا الالتفاف هو ما جعل المشايخ الكبار -الواثقين بمن حولهم من تلك الفئة من الطلاب والمريدين- يكلفون حركيي الصحوة بإدارة المناشط الدعوية والتوعوية، والدولة فتحت لهم المجال بسبب تزكية المشايخ الكبار لهم، وللحديث بقية.