نحن مؤمنون جداً بما آمن به آباؤنا وإن لم نختبر خلافه، فمن الصعب أن نقنع أحدهم بشيء لا يؤمن به أو لم يجربه أو جربه آخرون وفشلوا، فكانوا البرهان الأصدق على عدم جدوى التجربة. «صاحب بالين كذاب وصاحب ثلاثة منافق»، مثل شعبي قديم أخذنا نطبقه ونردده ونؤمن به حتى عندما نوجه أولادنا، لأننا نشأنا على فكرة التركيز على شيء واحد لكي ننجح فيه، بالرغم أن أصحاب البالين هم أكثر الناس تأثيراً في العالم منذ الأزل، فمثلاً الرازي الذي بدأ بدراسة الموسيقى وانتهى بدراسة الطب والصيدلة ودرس الكيمياء والفلسفة والرياضيات، وأبدع في كل ذلك وأصبح مرجعاً عالمياً قامت على نظرياته العلوم، وترجم الأوروبيون كتبه واستفادوا منها. ابن سيناء العالم الذي أتقن العلوم كلها فكان فيلسوفاً وشاعراً وعالم فلك وطبيبا بارعا، ظل كتابه (القانون في الطب) مرجعاً طبياً لسبعة قرونٍ متتالية، وكذلك ابن النفيس مكتشف الدورة الدموية الصغرى، درس الفقه واللغة والأدب والمنطق والفلسفة وبرع في الطب وله كتب مشهورة في كل هذه العلوم، وغيرهم من العصر الحديث، على سبيل المثال صاحب الأطلال الذي عالج المرضى وكتب الشعر، وغيره الكثيرون، كل هؤلاء كانوا أصحاب بالين وأكثر فكانوا ناجحين ومؤثرين وعباقرة زمانهم.

ولكن لماذا بعض الأعمال الآن تتطلب من أصحابها التفرغ ! هل يعني هذا أننا لا نستطيع القيام بأكثر من عمل في الوقت ذاته، أم أننا نفتقر لتلك القدرات التي تجعلنا قادرين على الإنجاز في أكثر من مكان أو أحياناً في أكثر من تخصص!!

عطاء الإنسان لا يمكن أن نحصره في مكان معين بل من المنطق أنه كلما كان الإنسان ناجحاً وماهراً يزداد حجم الشريحة التي تستفيد من خدماته، ويستطيع الناس الوصول إليه متى احتاجوا لذلك. الطبيب الذي تعلم وتخصص لم يفكر أن يكون عمله حصرياً لمنشأة بعينها بل ظن أنه سيكون متاحاً لكل من قصد اسمه وعلمه، فالكل يهتم باسم الطبيب قبل المنشأة التي يعمل فيها، فنحن نذهب للطبيب وليس للمكان، الطبيب الذي نطمئن له، الطبيب الذي لديه سيرة ذاتية وخبرة علمية وعملية نرتاح لها، نحن نعلم أن الوصول إلى الأطباء المميزين في المستشفيات الحكومية لا يتم إلا عبر مواعيد طويلة، بينما الوصول للطبيب في القطاع الخاص لا يستغرق وقتاً، وأحياناً يبحث المرضى عن هذا الاستشاري المميز في مستشفى خاص، لأنه يرغب في خدمة فندقية قد لا تتوفر في مستشفى وزارة الصحة. وحتى هذا الوقت عمل الطبيب الاستشاري التابع لوزارة الصحة في أي منشأة طبية خاصة ممنوع وتترتب عليه عقوبات مالية! بينما أعطت قطاعات حكومية أخرى لأطبائها حق العمل في القطاع الخاص والعيادات الخاصة، واستشاري وزارة الصحة يحمل من المؤهلات العلمية والخبرات العملية الكثير، ومن المجدي أن نستفيد من هذه الخبرات في القطاع الخاص، وهذا سيدعم الطبيب السعودي ويرفع من مستوى الخدمات الطبية في القطاع الخاص، ويعطي للمرضى خيارات أوسع بشرط عدم الإخلال بكفاءة عمله في مستشفى وزارة الصحة.

من الممكن أن تكون صاحب بالين وأكثر، على أن تكون مخلصاً ومتفانياً في كل ما تفعل وكأنه الشيء الوحيد الذي تقوم به.