التأمين الطبي وقضاياه وعلاقة المستفيدين منه بالشركات مقدمة الخدمة لا تكاد تنقطع من الصحافة المحلية والبرامج التلفزيونية المهتمة بالشأن المحلي. ومن وقت إلى آخر نقرأ التصريحات واللقاءات التي تبشر بقرب إقراره وتطبيقه على المواطنين الذين ينتظرونه بفارغ الصبر، حتى يخرجوا من جداول الانتظار في المستشفيات العامة ويرتاحوا من خدماتها غير المرضية في غالب أمرها.

ويتساءل الناس: لماذا تأخرت الجهات المسؤولة في تطبيق هذا النظام؟ وماذا تحتاجه حتى يصبح التأمين الطبي واقعا ملموسا يرفع عن المواطنين معاناة التطبيب في المستشفيات غير المؤهلة لتقديم الخدمات الصحية اللائقة بهذا العصر. وفي مقابل هذه التساؤلات يبرز رأي آخر يطرح أسئلة تحاجج بأن الخدمة الصحية والطبية اللائقة ليست مرتبطة بالتأمين الطبي، ويمكن أن تؤديها المستشفيات الحكومية إذا توفرت لها الإمكانيات المالية والبشرية، وأن ما سينفق على التأمين يمكن أن يبني قاعدة صحية وطبية راقية يمكلها المجتمع بدلا من إهدار ثروته في جيوب شركات التأمين وملاكها الأفراد. ويؤكد أصحاب هذه الرؤية أن التأمين ليس "غاية" في حد ذاته ولا يعدو كونه أحد وسائل التغطية الطبية التي ابتكرتها بعض المجتمعات وكيفتها بحيث تناسب ظروفها ونظامها الإداري والاقتصادي. يشيرون إلى أن التأمين الطبي لا يؤدي دوره بصورة صحيحة إلا إذا كان شاملا ويقدم تغطية عادلة لأطرافه كلها (المستفيد ومقدم الخدمة) ولا بد أن تكون تكاليفه معقولة وغير مبالغ فيها. وكل هذه الشروط تحتاج إلى أرضية متكاملة من التشريعات والشبكات الصحية القادرة على تقديم الخدمة في أي مكان وأي زمان.

وخارج دائرة هذا "الجدل"، المتروك لأهل الاختصاص، هناك واقع معاش متصل بصحة الناس ومستوى الخدمات المقدمة لهم وعلاقتهم بشركات التأمين والقوانين المنظمة لتلك العلاقة، ومن هو الحكم في حال الاختلاف؟. ومن أبرز ملامح هذا الواقع: أن السوق السعودي مليء بشركات التأمين التي تسوق خدماتها وتضع من القيود والشروط ما "يكتف" المستفيد دون أن يكون له من يحميه أو يقف إلى جانبه عند الضرر. وأن غياب "المنظم" الحازم الحاضر عند الحاجة أعطى هذه الشركات حرية وضع أسعارها بالطريقة التي تناسبها، حيث لا يوجد نظام يفرض عليها الحد الأدنى من الخدمات. وهذا حول التأمين الطبي إلى "بازار" فاندفع بعض مقدمي الخدمة إلى تخفيض أسعارهم من أجل جلب العملاء بغض النظر عما سيترتب على ذلك لاحقا. وهم يقدمون على هذه السياسة المخادعة اعتمادا على أنه لا يوجد من يحاسبهم إذا قصروا في خدمة عملائهم أو يتدخل لتحكيم الأنظمة والقوانين عند الاختلاف معهم، فهم وحدهم الذين يملكون حق "تفسير" نصوص العقود المبرمة مع الزبون. وهناك الكثير من الشواهد والتجارب والشكاوى الناجمة عن تأخير فواتير التعويض نتيجة المماطلة والتسويف والإصرار على التفسيرات الخاصة. وبعض شركات التأمين تتنصل من التزاماتها إذا تبين أن حساباتها لم تتفق مع نتائج العلاقة مع المستفيدين.

ولعل بعضكم يتذكر ما حدث بعد كارثة سيول جدة قبل عامين التي راح ضحيتها أرواح وممتلكات، فقد امتنعت بعض شركات التأمين عن الوفاء بالتزاماتها بحجة أن "البواليص" لا يشار فيها إلى التأمين ضد الكوارث، باعتبار السعودية ليست منطقة كوارث طبيعية، وتمسكت شركات التأمين بتفسيرها لحدود تغطية التأمين الشامل على المركبات إذ كان المظنون أنها تغطي كارثة السيول لكن تبين أن الأمر ليس كذلك.

وفي هذا المكان كتبت قبل عامين أطالب الجهات المسؤولة بأن تفحص ملفات شركات التأمين الطبي العاملة في السوق، والتعرف على سجلها الخدمي ومدى موافقته لشروط التراخيص التي حصلت عليها، والمتابعة المستمرة لطبيعة ومستوى الخدمات التي تعرضها هذه الشركات، ووضع أسعار لبواليص التأمين في حدها الأعلى وحدها الأدنى حتى لا تدخل شركات بأسعار متدنية تهدف إلى الربح بغض النظر عن مراعاة مستوى الخدمة المقدمة إلى الناس. ولفت النظر إلى أن غالبية الشركات العاملة في السوق تعامل كبار السن معاملة لا تخلو من "التمييز"، فهذه الفئة تعاني ولا يرحب بها وإذا قبلتها بعض الشركات ضمن "صفقة" فإنها تفرض عليها شروطا مجحفة وأسعارا مبالغ فيها. وفي ظل غياب البديل كثيرا ما "يذعن" أفراد هذه الفئة هروبا من اللجوء إلى المستشفيات الحكومية ذات الخدمات المعروفة.

وحتى ينتهي "المتجادلون" حول جدوى تطبيق التأمين الصحي على جميع المواطنين أقترح أن يطبق على بعض الفئات الخاصة في إطار التجربة والرعاية الخاصة. وربما يكون المتقاعدون ومن في حكمهم من المواطنين (من هم فوق الستين عاما) فئة مناسبة لهذه التجرية، وهذا يحقق هدفين: تكريم هذه الفئة التي خدمت بلادها وتحتاج في هذه المرحلة العمرية من الخدمات ما لا يتوافر بشكل مناسب في مرافق وزارة الصحة، فتطبيق التأمين عليهم يساعد على دراسة تكاليفه ومدى رضا المستفيدين منه وقدرة القطاع الخاص على استيعاب هذه الإضافة. كما يمكن إضافة فئة المعلمين ضمن برنامج العناية بالمعلم الذي تتبناه وزارة التربية بهدف الرفع من مستواه.

الذي أريد أن أنتهي إليه هو: إن جهود وزارة الصحة يقدرها الجميع لكنهم يتطلعون إلى المزيد، وأن مستوى الخدمات المقدمة للمواطن من خلال شركات التأمين تحتاج إلى رقابة لصيقة حتى لا يشعر المستفيد أن الشركات هي الخصم والحكم.