عندما تُذكر التربية غالبا ما يخلط الناس بين التربية والتعليم، وتقفز إلى الذاكرة صور مثل المدارس والكليات عند سماع كلمة «تربية» أو قراءتها، وقد يفكرون أيضا في وظائف أو مهن معينة مثل المعلم أو الأستاذ الجامعي، المشكلة في ذلك أنه بينما نتطلع إلى مساعدة الناس على التعلم فإن الطرق التي تعمل بها المدارس والهيئة التعليمية ليست بالضرورة شيئا يمكننا أن نسميه تربية بالشكل الصحيح.

لأنهم يكونون قد اتخذوا أو ربما دربوا على أن التعلم يكمن في غرس التعلم داخل الطلبة بناءً على خطط تم وضعها من قبل أناس آخرين، بينما التربية - بالنسبة إليّ على الأقل- هي عملية دعوة إلى الحقائق والإمكانات، أي التشجيع وإعطاء الوقت للاكتشاف، إنها كما قال عنها جون ديوي «عملية حياة، وليست إعدادا للعيش في المستقبل»، ومن وجهة النظر هذه أستطيع أن أعتبر أنه يجب على المختصين في التربية التطلع إلى التعامل مع الناس بدلا من العمل عليهم، مهمتهم هي مساعدة الطلبة أو الأبناء على الاستنتاج من أجل تطوير الإمكانات والمهارات التي يمتلكونها أو يسعون إلى امتلاكها، وعليه فإن التربية هي: إحداث التعلم من خلال الإيمان بأن الإنسان يمكن أن ينمو إذا وجد التربة الصالحة والحرية الكافية لأن يستكشف ويسأل ويجرب، وهي تنطوي أيضا على الوجود مع الآخرين بطريقة معينة، بحيث تمكن الفرد من العيش بينهم باحترام الآخر، وتقدير المعرفة والحكمة في التصرف، وهذا ليس فقط من أجل الارتقاء والازدهار، بل من أجل المشاركة في الحياة أيضًا، لأننا وُجِدنا على هذه الأرض للعبادة، والعبادة هي الطاعة والعمل الصّالح، والعمل الصالح هو البناء، والبناء عمل تعاوني وشامل يتطلع من خلاله الإنسان ليس فقط إلى العيش الكريم، بل إلى الحرص على أن يعيش غيره بقدر من الرغد والكرامة والراحة.

إذًا من هذا المنطلق يجب علينا كتربويين أن نبدأ بالتفكير في كيفية تجهيز الأجيال للقيام بهذا الدور الحيوي من أجل الدنيا ومن أجل الآخرة.

تابعت مقطعا لإحدى الأمهات المثقفات الواعيات لأهمية دورهن، وكان ما سمعته منها يدل على علم وحكمة وتدبر واستنتاج، ليس فقط من الخبرات التي مرت بها، بل أيضا من المعرفة والعلوم التي اطلعت عليها، لقد شدتني وهي تشرح كيف أنها ربّت أبناءها بخمس خصال تذكرهم بها كلما همّوا بالخروج من المنزل موجِزة إيّاها بجملة «كن محترما»، والخصال هي كالتالي:

1- حافظ على صلواتك، بمعنى لا تفرط فيها من أجل عمل أو أي نشاط تقوم به، احرص عليها وأعط إيمانك وتواصلك مع الله حقه حتى تتم لك البركة في يومك وفي عملك، وتكون في آخرتك من الفائزين.

2- كن حليما، فلا تغضب، ولا تجعل الآخرين يتحكمون في انفعالاتك، خذ الناس بحلمك، والتَمِس لهم الأعذار، وضع نفسك مكان غيرك، ولتكن لديك سعة الصدر مما يمكنك من احتواء الجميع، هنا لا يفلت منك التفكير السليم والهادئ بحيث تستطيع من خلاله اتخاذ القرارات السليمة، والقيام بالسلوكيات الراقية التي تمثلك.

3- دارِ واحرص على ألا تعامل خصمك بالمثل، لأنه لك أخلاقياتك فاحرص على أن تمثلها، واعدِل ولا تَحِد عن الحق، وأظهر المحبة والتعاطف دائما، فمع مرور الوقت قد يتحول العدو إلى صديق، ومن يدري فقد يكون ضائعا فتهديه أيضا، فيكون لك أجر عظيم.

4- التواضع، لا تترفع عن الناس، فالأرض المنخفضة تشرب مياهها ومياه غيرها، والمتكبر كمنطاد الهواء مهما ارتفع فإن مصيره إما إلى الانفجار، وإما إلى نفاد الهواء منه فيهوي إلى الأرض التي ارتفع فوقها. فالتواضع يحبب الناس بك، ومتى ما أحبوك أصبح كلامك مسموعا لديهم، وعندها تستطيع أن تقود وترتقي بهم بكل سلام ومحبة، وتنتج أكثر.

5- خدمة الناس، سخر نفسك لخدمة الناس على قدر استطاعتك، ومن يخدم الناس يسخر الله له من يخدمه ويسهل له أموره، وبهذا يتم ترابط المجتمع بالتعاطف والعمل المشترك والتعاون.

كل ما سبق من صفات الإنسان الذي يحترم نفسه ويحترم غيره أيضا، وعندما تقول لابنك «كن محترما»، فأنت تذكره بكل الصفات التي تم ذكرها قبلُ من دون أن تحتاج أن تعيدها عليه، وقد تجد عبارات أخرى، المهم أنك تتحمل المسؤولية وتبدأ من المنزل، بينما وبكل بساطة حين نتحدث عن المربي في المؤسسات التربوية يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أنه العالم والمتدبر الواعي والمطلع على كل المستجدات، ليس فقط في علوم التربية، بل أيضا في علم التواصل، والإدارة، والعلوم الإنسانية، والعلوم التطبيقية، فيكون أكثر قدرة على البناء والتقويم للأجيال التي هي أمانة بين يديه. والتربية للمربي سواء كان أبا أو أمّا أو معلما أو أستاذا، لا تحتاج إلى أن نسأل أنفسنا «ما هو سلاح المربي» لأننا لسنا في حرب، بل نحن في قلب عملية حيوية نمثل فيها نحن المكونات الأساسية التي هي عبارة عن أجزاء مترابطة متأثرة ومؤثرة في دائرة تسمى الحياة، وعليه فإن التربية تحتاج إلى «إنسان محترم» بكل ما تحمله هاتان الكلمتان من معنى.