لو وقف الماضي والحاضر أمام أقلام المؤرخين لشعروا بالغُبن إلى أن يتألقوا على مرأى من عدسات المصورين، ولو عرفنا أن الصورة تساوي ألف كلمة، وأن الرسم بلمحة واحدة يُغنينا عن رزمة من صفحات كتبٍ اختطتها الأهواء وعنونتها الآراء، لعرفنا أن الصورة المجرّدة هي شريان العين المجرّدة، وأن الصورة قد غدت أيقونة الزمان، وليس عجباً أن أدركها واستشعرها البعض كما لو كانت تخزّن رائحة المكان، ما دامت تنطق الصورة وتتحدث الألوان!.

على أطلال كنيسة آيا صوفيا ومتحفها الجميل، وبستائر متحركة تُجاهد لتكميم الماضي وليّ عجلته، وعبر حشود غفيرة تنتشي بيوم انتصارها وفرحة صلاتها، دخل الرئيس إردوغان واثقاً يتحرك على حبل السياسة والدين، مدغدغاً الأحلام تارة ومداعباً الأوهام تارة أخرى، ثم يلبس عمامته بصمت وخشوع، بعد أن استبدلها بخوذة طموحه العميق، خوذة استباحت الأرض والعرض في سورية المأزومة، وغرست خنجراً أرعناً في خاصرتها، أيّاً كان حاكمها ومهما تنوعت أذرعه ومرتزقته، خوذة تخنق هواء وماء سورية حتى أصبح الفرات يلفظ أنفاسه الأخيرة، وكما هو متوقع فلا مُطالب بدمه ولا بواكي له، وخوذة تنتهك العراق الجريح، وتحتل وتحرق جزءاً من شماله المغلوب على أمره، أيّاً كان يجلس مرتجفاً ومشتتاً على كرسيّ بغداد، وتترك دجلة يبكي كارثة تُنكئ جراحه، لدرجة أن أصبح ذلك النهر العظيم يمكن عبوره سيرا على الأقدام، وخوذة تغرس مخالبها وتجار حروبها في جسد ليبيا المريضة، وتكلّل شواطئها بسفنها الحمراء المتعطشة لمذاق النفط ورائحة الغاز، على مرأى ومسمع من طرابلس الأسيرة، ثم يجلس خاشعاً ليس مكمّماً على نقيض من يحيطون به، حالهم كحال حرية الرأي والتعبير والصحافة في بلادهم، ثم على وقع لهفة أحفاد الفاتح واشتياقهم، وعلى تخيل اهتزاز قباب آيا صوفيا، ونبل الدعوة المعلنة إلى العدالة والسلام والرحمة، يقرأ الرئيس إردوغان ما تيسّر من سورة الفاتحة، تلك السورة العظيمة ذات السبع المثاني بصوته الرقيق، فهل نسي الرئيس إردوغان ما تيسر من سورة الإسراء التي تحرّم قتل النفس إلا بالحق، فهو أكبر الكبائر بعد الشرك، وهل تناسى سورة النساء التي تحرّم وتتوعد كل من اعتدى وظلم وتجبّر، أم أن في كل شيء وجهة نظر حتى لو كان الناظر عابداً ومعتكفاً، وأخيراً يصعد الخطيب متثاقلاً فرحاً، ومتكئاً على سيفٍ يحسبه باقة ورد أو غصن زيتون، سيف جارح ورقيق، يعلن انتهاء الحسرة والجرح العميق، سيف ربما يبعث رسائله بلغة أخرى وإلى عالم آخر، عالم يجافي عالم المحبة والتسامح وتقبّل الآخر.

إلى الذين ترتجف أوصالهم وتقشعرّ أبدانهم وتتصلب عروقهم عند سماع جملة علمانية الدولة بما لها وما عليها، هل يتنبهون إلى أن علمانية الدولة التركية هي أحد أهم ركائزها وبواعث استقرارها، وأن الأيدولوجية الكمالية الراسخة في المجتمع التركي قد شطبت سطر أن دين الدولة هو الإسلام إلى غير رجعة، وإلى الذين نبشوا وفتّشوا في ثنايا وحقب التاريخ الإسلامي بين ليلة وضحاها، فتذكروا فجأة المساجد التي طُمست هويتها وبُدّلت إلى كنائس تحت قبضة الأوروبيين، هل يدركون أن محاكمة قرون من الأحداث والتحولات بأيدي فهارس طويلة من الشعوب والقادة ليست بالأمر اليسير، وأن مقابلة السيئة إن حصلت لا تكون إلا بالحسنة من باب الدفع بالتي هي أحسن، وإلى الذين هلّلوا للملمة الرئيس إردوغان لأوراقه في المنتدى المغطّى بالثلوج السويسرية ومغادرته المكان، هل يعرفون أن سبب المغادرة هو عدم إعطاء الرئيس إردوغان الوقت الكافي زمنيا للرد على كلام الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، ولو كان كارهاً وجوده فلماذا حضر وقبل أن يُجالسه؟، وبعد ذلك ولهذه اللحظة لم تتلق القضية الفلسطينية من القيادة التركية سوى كلام التنديد ومشاعر المؤازرة.

إن تغيير واقع أحد بيوت العبادة المحاط بآلاف المساجد الجميلة التي تصدح بدين التعايش والموعظة الحسنة لن يقلب الشرائع أو يكسر الموازين، مثلما أن ارتداء العمائم وترتيل الآيات لا يُبرر أو يجمّل استلهام واستحضار ذكرياتٍ أكل الدهر عليها وشرب.