على الرغم من سلبيات كورونا الصحية والاجتماعية والاقتصادية التي تأثرت بها المجتمعات البشرية دون استثناء، ومع استمرار وجودها بيننا واصطيادها كل يوم لعدد غير قليل من البشرية في شتى أنحاء العالم، مع التعافي الموجود والوفيات يومياً، ورغم ما نشهده من منافسات دولية وجهود علمية دؤوبة نحو الوصول للقاح يمنع الإصابة به، أو دواء ناجح للسيطرة عليه؛

فإننا لا نستطيع أن ننكر الإيجابيات العميقة للجائحة، والتي لامست جوانب حياتنا سواء المجتمعية منها والاقتصادية والسياسية والأمنية، وانعكس تأثيرها على سياسات وإجراءات مؤسسية وسلوكيات مجتمعية وفردية، يُسهم جميعها في تطوير تنموي فرضته الظروف القاهرة، ودفعت إليه الحاجات للتعايش، لتستمر وتيرة الحياة بما تحمله من متناقضات وبما تفاجئنا به من أحداث، لتُذكِّرنا بأننا رغم ما توصل إليه العلم من منجزات إيجابية كبيرة في المجال العلمي والطبي، والتي جعلتنا نعتقد بأنه يمكننا السيطرة على مثل تلك التحديات، إلا أننا نكتشف يوماً بعد يوم أننا رغم التقدم ما زلنا أسرى تنافسات دولية وفكرية تقود البشرية لمصالح مختلفة وغامضة، لا نستطيع ضبط ملابساتها ونتائجها، كما أننا لا نملك منع ضررها الذي اكتسح جميع المقدرات البشرية.

فعلى صعيد المجتمع والأفراد، ساهمت جائحة كورونا في تصحيح كثير من سلوكياتنا العشوائية التي كنا لا نلقي لها بالاً، سواء في التعاملات الإنسانية العامة بين الأفراد وفي طرق وآلية التواصل، أو في الوعي لأهمية الأخذ بالاحترازات الصحية في كثير من أوجه تناولنا لحاجاتنا ولمتطلبات الحياة، سواء ما بين الأفراد أو مع الماديات والمرافق المتاحة، علاوة على استدراك ما ينجم عن الاختلاطات العامة الكبيرة من سلبيات صحية واجتماعية واقتصادية، وما يتولد من إيجابيات بين أفراد العائلة الواحدة، نتيجة وجودهم سوياً لفترة ليست قصيرة، أدت لعمق التقارب بين أفراد الأسرة والبيت الذي يجمعهم، بل واكتشاف ما تحتويه ذواتنا وأفكارنا من نقاط تقارب واختلاف، كانت تحتاج لذلك الثبات والاستقرار لمعايشتها وتفهمها، ولاستشعارنا وتقديرنا لقيمة جميع ما يحيط بنا من نعم كنا نعيشها دون مبالاة أو تمعن لقيمتها، فهل من استدراك؟!

كثيراً ما تجبرنا المحن على الاعتماد على الذات، وتدفعنا للبحث عن جوانب القوة لدينا لتسندنا، بابتكار الحلول والمعالجات التي تحد من تأثيرها علينا، وبذلك يشتد العود وتقوى الإرادة، فتصبح العزائم أكثر صلابة، والمعرفة أكثر حنكة وتمرسا، وذلك يجري على مستوى المؤسسات والأفراد والمجتمعات بصفة عامة، وكما أن المحن والأزمات تهيء لنا الفرص لاكتشاف إمكانياتنا ومقدراتنا الإيجابية الفاعلة، فإنها في الوقت ذاته تكشف نقاط ضعفنا وثغراتنا التي تحتاج إلى ترميم في هيكلها أو تصحيح لمسارها أو حتى تغيير جذري في بنُيتها ومقوماتها التحتية التي تستند إليها.

تحت ضغوط الحظر الصحي والاجتماعي، تولدت مبادرات وسياسات وإجراءات شملت جميع المؤسسات والقطاعات، لابتكار أساليب متجددة تمكنها من الاستمرار في فعاليات الحياة ومتطلباتها، بصورة مختلفة وبشكل يناسب نوع التحدي وحجمه وسرعة انتشاره، فكانت الجائحة مسبارا لكشف جوانب الضعف والقوة في بنيتنا التحتية وإمكانياتنا المتاحة، ومستوى قدرة مواردنا البشرية والمادية على التعامل مع سلبيات الجائحة، بأقل الأضرار وأكبر الإنجازات الفاعلة، في ظل تلك الظروف القاهرة التي فرضت على المجتمع البشري.

على المستوى الصحي، أثبتت كورونا أنه ولله الحمد لدينا من الكوادر البشرية الصحية والإدارية ما يدفعنا للاعتزاز والفخر بمستوى تأهيلهم وسمو مواطنتهم واستشعارهم للمسؤولية الإنسانية نحو جميع السكان دون استثناء، ولكن كشفت كذلك الجائحة أننا بحاجة لزيادة كبيرة في البنية التحتية الخاصة بالمستشفيات والمراكز الصحية للرعاية الأولية، وبما تحتاجه من إمكانيات فنية وبشرية من الممارسين الصحيين بجميع فئاتهم، فهم الذين يمثلون خط الدفاع الأول عن جميع السكان، وعليهم تعتمد إدارة الأزمة بما يسهم في احتواء الجائحة والحد من انتشارها صحياً.

على المستوى الإعلامي والأمني والتجاري وإدارة الموارد البشرية، نجد أن الاعلام لعب دوراً مهماً في الإجراءات التوعوية للأمن الصحي المجتمعي، تناولتها وسائله بآليات وبرامج متنوعة للتأثير على الرأي العام، ولتوجيه المجتمع نحو تحقيق أكبر قدر من الاحترازات المطلوبة والسلامة الآمنة، ويعتمد تقييم أداء القطاعات على مستوى جاهزيتها بإمكانيات تُسهم بنجاحها في عملية إدارة الأزمات، وقد كشف الأزمة عن حجم كبير من التجاوزات للمؤسسات التجارية وما يتصل بهما من الغش والفساد، والتي دفعت نحو حملات مضاعفة من التقصي والمتابعة لواقعها الطبيعي ولممارساتها غير القانونية، والتي ينعكس تأثيرها سلباً على الأمن المجتمعي والنزاهة المؤسسية للقطاعات المختلفة.

وقد أثبتت المحنة أن الاهتمام بوسائل الاتصالات وما يتعلق بها من تقنيات، قد احتل درجة متقدمة من المسؤوليات والمتطلبات التي تحتاج إلى التوسع في خدماتها وتيسيرها في المناطق والجهات المسؤولة الرسمية وغيرها، لكونها المحور الرئيس الذي اعتمد عليه التواصل بين أفراد المجتمع والمؤسسات بمختلف مستوياته، وعليه فإن تعزيز التمكين به يحتاج الارتقاء بوسائله الفنية، وتدريب مواردنا البشرية على التعامل معه وتأهيلهم لذلك، وذلك يتطلب بدوره الاهتمام بالتوسع في مراكز ومجالات تعليم تلك المهارات والعلوم سواء على مستوى الجامعات أم المعاهد التدريبية للدبلومات المتخصصة.

وعلى الرغم من السلبيات التي تولدت عن الجائحة اقتصاديا لما تطلبته من نفقات داخلية، وما فرضته علينا ظروف التجارة الدولية والركود الاقتصادي، فذلك جميعه انعكس إيجاباً بصورة مغايرة على انعاش الاقتصاد المحلي وتحريكه نحو نمو اقتصادي نتيجة لمنع السفر وتوجيه السياحة والإنفاق نحو الداخل، وذلك يدفع ويحفز نحو مزيد من الاهتمام بمنشآتنا السياحية، بما تحويه من منتجعات ومناطق جذب سياحي، ليتم تأهيلها بمستويات لائقة تنافس المناطق السياحية الأخرى من العالم، فنكون بذلك قد نجحنا في إعادة توجيه بوصلة السياحة نحو وطننا، بما يزخر به من كنوز مكانية وطبيعية تحتاج لتهيئتها وتجهيزها لتكون مراكز سياحية جاذبة.

لا شك أن التحديات تتولد عنها إيجابيات منظورة وغير منظورة، وجميعها يصب في الصالح التنموي العام سواء على مستوى التنمية البشرية المستدامة أم على مستوى التنمية الوطنية بصفة عامة، فلنستفد من تلك الإيجابيات لتكون مصباحاً يضيء لنا بعضاً من الحقائق والوقائع التي تكاد تختفي وتتوارى عن الأنظار في العتمة وفي زحمة الحياة.