كان والده محمود إبراهيم مصطفى العقاد مديرا لإدارة المحفوظات بمديرية أسوان، وقد اشتهر بالصلاح والتقوى ولطف الشمائل واحتقار المال والحرص على الكرامة، كما عرف بالتنظيم والتنسيق، وقد ورث العقاد عنه الدقة وحب النظام وعدم الاحتفال بالمال والمقتنيات والاعتزاز بالكرامة كل الاعتزاز.

أما والدته، فمن أصل كردي ولكنها تلقب بابنة الشريف نسبة إلى الرسول، عليه السلام، كما يؤكد الأستاذ طاهر الجبلاوي في كتابه الجديد «في صحبة العقاد» الذي كشف فيه عن نواح جديدة من حياة العقاد كان لا يعرفها إلا الخاصة وذلك كالجانب العاطفي الغرامي في سيرة الأديب الجاد. كانت هذه الوالدة تقية مقتصدة قوية الإيمان ذكية قوية الشخصية شديدة في نظام البيت حتى سميت «المشدة»، وقد ورث منها كثيرا من خلالها المعنوية ما عدا الاقتصاد في النفقة، كما ورث صفاتها الجسدية وبخاصة ملامح الوجه، وكثير من العظماء كانوا قريبي الشبه بأمهاتهم، وقد ورث عن أبويه جميعا حب العزلة والانطواء، وكان للكوليرا التي نكبت بها أسوان في صباه أثر في هذا الميل، وفي هذا أعظم الثمرات فإن حب الانفراد هو الذي أتاح له أن يقضي أكثر أيامه قارئا أو سابحا في عوالم فكرية وروحية سامية! حتى عرف بأنه أكبر قارئ في دنيا العروبة، ومن أغزر الكتاب إنتاجا حتى لكأنه النيل الدافق، وقد كتب غير كتبه التي تجاوزت المائة، عشرة آلاف مقالة سياسية كما يروي صديقه الجبلاوي. وعرف العقاد بالذاكرة الخصبة القوية، كان يذكر أشياء حدثت له وهو في السنة الثالثة من عمره، إنه يذكر السفينة التي أقلته في رحلة نيلية يذكرها وهي تضطرب بين الشاطئين ويضرب معها الشراع، ويذكر الشاطئ الشرقي الذي وقفت عليه، ويذكر النوتية هم يطبخون طعامهم تحت نخلات كانت هناك، بل إنه ليذكر حتى القهوة التي شربها حينذاك!

هكذا تستوي أمامنا الخصائص النفسية التي كونت أشهر أديب عصامي معاصر، لم ينل غير الابتدائية، ولكنه كان جامعة متنقلة تدرس الجامعات آثاره العميقة الغزيرة موضوعات للماجستير والدكتوراه: الذكاء الممتاز – الحافظة القوية – معرفته لنفسه – اكتشافه لمواهبه الأدبية – اهتماماته الثقافية المبكرة – عدم الاحتفال بالتثبيط – العناد في تذليل العقبات – إتقانه اللغة الإنجليزية الذي مكنه من الإطلاع على الآداب العالمية والتراث الفكري الإنساني – إيمانه العميق بقدراته الذهنية – استقلاله الفكري – الميل للانطواء والبحث والتأمل – الألفة حتى لا أحد لها – النهم للقراءة الذي يشبه الاحتراق – وأخيرا التحدي الكبير الذي يعتبر مفتاح شخصيته الثقافية والأدبية والإنسانية.

كان لهذه الخلال أعمق الأثر في تكوينها وتوجيهها.

وإني لأتصور العقاد اليوم في جنة الخلد – كما تصوره توفيق الحكيم – يبحث عن مكتبة عامرة بذخائر الفكر وكما يقول هو عن نفسه: نعم أنا لا أستطيع أن أعيش في جنة لا أطلع فيها نعم لا أطلع فيها.. وليس من الضروري، أقرأ في كتاب نعم لماذا لا نطلع في الجنة؟!

* أديب وناقد سعودي « 1919 -2011»

*1964