حضرت خلال الأسبوع الماضي فعاليات الأيام السعودية التي أقامتها المندوبية الدائمة للمملكة لدى اليونسكو بمقر المنظمة في باريس، بالتعاون مع وزارة الثقافة والإعلام.
في عاصمة الأنوار كانت هناك جهود واضحة، فحظيت الفعاليات بإقبال جيد، ليس من جانب العرب فقط، بل من قبل الفرنسيين والأوروبيين المقيمين، استطاعت أن تحتضنها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، باعتبارها الراعي الثقافي الأممي الأول، عبر جهود المندوبية في هذه التظاهرة الثقافية التي قادها المندوب الدائم للمملكة لدى اليونسكو الدكتور زياد الدريس وكافة زملائه بكل اقتدار.
ولا أنسى أيضاً التقدير لجهود وكالة وزارة الثقافة والإعلام للعلاقات الدولية، كأول نشاط خارجي للوكالة على ما أظن، حيث كان وكيل الوزارة الأستاذ عبدالرحمن الهزاع حاضراً في كافة التفاصيل، غير أن الطموح لا ينتهي عند حد ونعلق الأمنيات على خلق أفكار جديدة غير تقليدية تقدم بها ثقافتنا السعودية للآخرين في هذا العالم؛ مما يحتّم إيجاد طرق إضافية للعرض وتقديم ثقافتنا بشموليتها، ولا سيما مواكبتها للعصر الحديث، وتمثيلها في أوسع نطاق ممكن، فمن الملاحظات في ذلك مثلاً، تمثيل المناطق الرئيسية في العروض الفلكلورية، وغياب منطقة رئيسية وهي المنطقة الشمالية عن هذا التمثيل رغم وجودها على خارطة الجغرافيا والثقافة السعودية.
أظن الاحتياج إلى تضافر الجهود لعصف الأذهان- بهدف إنتاج الأفكار الخلاّقة - ما زال قائماً؛ من أجل تقديم ثقافتنا السعودية بشكل أعمق وأكثر تأثيراً في المتلقي واجتذاب الفئات المختلفة، ولا سيما أن البعض في المجتمعات الغربية قد يكون في ذهنه صورة نمطية أخرى، وهو الأمر الذي سبق أن تطرقتُ إليه بالتفصيل في مقال بعنوان: ماذا قدمت الثقافة السعودية للعالم؟ أشرتُ فيه إلى أننا بحاجة إلى تكثيف الجهود، والبحث عن طرق ووسائل غير تقليدية لنقدّم بها ثقافتنا السعودية إلى عالم ننتمي له إنسانياً وجغرافياً وثقافياً.
من ضمن برنامج فعاليات الأيام السعودية في اليونسكو، ندوة "المرأة"، قدم فيها عدد من السيدات السعوديات تجاربهن التي حازت احترام الجميع، وندوة أخرى من الأهمية بمكان أيضاً وهي ندوة "حوار الحضارات" التي شهدت طروحات ثرية سواء من قبل المشاركين (الدكتور عبدالله العبيد، الدكتورة منى خزندار، الأستاذ جمال خاشقجي) أو الحاضرين الذين تفاعلوا مع ما طرح عبر المداخلات التي أتى كثير منها على الجرح الإنساني لتبدو هي في غاية الأهمية، حيث شهدت الندوة اتفاقاً على أهمية الحوار بين الحضارات، وهو ما أكده وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز خوجة في مداخلته. غير أن المداخلات احتوت أيضاً على تباينات ضمنية حول اختلاف الحوار بين النظرية والتطبيق في العالمين العربي والإسلامي. ولا أخفي تأثري بما قالته المندوبة الدائمة لجمهورية باكستان الإسلامية في مداخلتها، حيث أكدت مقتل شقيقتها ذات التاسعة والعشرين ربيعاً على أيدي مقاتلي طالبان لأنها لم تكن ترتدي الحجاب.. وقالت بنشيج واضح: "إني لا أرتدي الحجاب لكنني مسلمة".. وهنا لا يحق لأحد مصادرة دينها تحت أي مبرر كما فعل أفراد طالبان.
في منظمة مثل اليونسكو، تدعم الثقافات العالمية، هناك وعي عميق بوجود الاختلافات الطبيعية بين البشر، في لغاتهم وعقائدهم وألوانهم وثقافاتهم عموماً، إذ لا أظن أحداً يستطيع أن يشرعن للقتل ويدّعي الحوار؛ وهذه إحدى المشكلات العويصة في الثقافة العربية والإسلامية التي لم تستطع أن تتجاوز ازدواجيتها، وهو ما لاحظه بعض المداخلين – ومنهم المديرة العامة للمؤتمر العام لليونسكو- التي أشارت لذلك كإشكالية ثقافية، مما يعني أن هناك من يرون أن نفي الآخر يعتبر معضلة ثقافية تعانيها الشعوب.
في مداخلتي المختصرة، حاولتُ أن ألفت النظر إلى الخلط بين مصطلحي الثقافة والحضارة، والإشارة إلى ضرورة الإيمان بوجود الاختلاف مكوناً طبيعياً لأي ثقافة، ولا سيما أن "صراع الحضارات" في العالم هو ليس أكثر من صراع اقتصادي تقوده السياسات. ولإنجاح أي حوار يفترض بالشعوب - أفراداً وجماعات - التركيز على المشتركات الإنسانية التي تهم كافة الأطراف وتشعرهم بالانتماء إلى ثقافة إنسانية واحدة، نكون فيها مؤثرين ومتأثرين، وتأتي في مقدمة هذه المشتركات الإنسانية: العلم والفكر والأدب والفن... فهي ذات لغة إنسانية مفهومة، وإنْ اختلفت الألوان واللغات والعقائد والعادات والتقاليد.
ولم يكن المثقف السعودي غائباً عن هذه المشتركات الإنسانية، حيث أشارت المديرة العامة لليونسكو خلال حفل الافتتاح إلى أديبنا الكبير الدكتور غازي القصيبي رحمه الله، وأكدت أن الثقافة السعودية تزخر بتنوع وتميز في مختلف مجالاتها وفنونها وتراثها، ودعت لمزيد من التقارب الثقافي وانعقاد هذه المناسبة تحت سقف اليونسكو دلالة على أنها تعتبر حضارة إنسانية مهمة.