الشيب لم يعد ضيفاً مزعجاً بل أصبحت تراه سمة وعلامة ووقارا، وكنت تخفيه قبل ذلك وتخشى ظهوره بين منابت شعر ذقنك وشاربك. أصبحت عبارة «يا عم» لا تضايقك وإن كانت عندما تصدر من الجنس الناعم تجعلك تشعر أنه لم يعد لك مكاناً في السباق والمنافسة عليهن.
المشاعر تتوقد من جديد، الذكريات تعود مجسدة بتفاصيل دقيقة كنت قد نسيتها مع طاحونة الحياة والركض خلف العمل والتنافس على الرزق والجاه والمنصب. تبدأ بتذكر حنان جدتك فتكثر الترحم عليها، ولو كان والديك على قيد الحياة فستبدأ مراجعة نفسك معهما وستزيد من برهما والإحسان في ذلك. أما لو كنت صاحب قلب مرهف وصاحب تجارب حب فاشلة فسوف تذرف الدمع على أطلال أحبابك الذين نسوك كما كنت قد نسيتهم من قبل. «لا شيء يبقى أو يدوم» ستصبح عبارتك المفضلة وخارطة طريقك الجديدة نحو الخمسين وما بعدها من سنين.
ستعود لمخازن الذكريات كثيرا، ستفخر بعرض ونشر بعضها على من حولك، وستخفي أكثرها عنهم لأنك تريد أن تكون في نظرهم القدوة الحسنة والملاك الطيب. ولكنك بقرارة نفسك تدرك كل الإدراك أنهم سيعيشون حياتهم كما يرونها هم، مدركين أنك لم تكن سوى بشر مثلهم، تحسن أحيانا وتخطئ وتزل في أحيان كثيرة.
سوف تتنازل مع الوقت وفي الطريق نحو الخمسين وما بعدها عن كثير من التراث، والتقاليد التي تربيت وترعرعت عليها، ستصبح بين حالتين، إما القبول بالواقع أو العيش في الماضي، ولكن حب الحياة المزروع داخل قلبك النابض سيختار المجاراة كحل وسيط، متنبهاً ومتخوفاً من عقلك الذي تشرب كل تلك الأفكار على مدى أربعين عاماً لتصبح منقوشة على صخر تغطيه الأتربة ولكن لن تمحوه أبداً.
ستذكرها وربما هي ستذكرك أيضا، لكن السنين باعدت بين روحيكما والمسافات باعدت بين أجسادكما والمشاعر باعدت بين قلبيكما. وبتنهيدة واحدة فقط، ستحاول إزالة طيفها من لحظتك الحالية، وستسحب بعدها زناد العقل لتطلق رصاصة تفجر تلك الفقاعة الخيالية فوق رأسك وتمضي، فعقلك الحكيم لم يعد يحتمل المزيد من الهزائم بسبب مغامرات قلبك الضعيف.
ستعود بك الذكريات لمقاعد الدراسة فستجد أنها قصيرة جدا ولن تذكر منها سوى زميل كريم أو معلم علمك دون أن يستعرض عضلات معرفته عليك. وفي بداياتك في العمل، ستضحك على نفسك وحماسها المفرط في المنافسة والفوز بالمناصب، ورغبتك الشديدة لتثبت للجميع أنك تستحق الأفضل، ستضحك على كيف أن كل الأمور كانت تقاس بمستوى القرب أو البعد من كرسي المدير، فكلما اقتربت منه زاد محبوك وأصبح الكل يخدمك كما لو أنك تحكم في مملكتك، ثم عندما تدرك أن هذا العالم المليء بالنفاق لا يناسبك وتقرر البعد فسوف تعرف حقيقة لاعقي الأحذية.
اليوم بات عمرك أكبر من أصغر خريجٍ جامعي بمرتين تقريباً، وأصبح عمرك أربعين مرة من عمر أصغر أطفالك، ربما أنك فكرت كثيرا، «هل سينال من الحب والحنان والتربية نفس ما ناله إخوته مني». عندها تبدأ بحساب بقية عمرك الافتراضي بحساب سنوات تقدمه في السنين، فعندما يكون عمره عشر سنوات سأكون في الخمسين وعندما يتخرج من الجامعة سأكون قد تقاعدت وعندما يتزوج سأكون كهلاً وربما مرحوماً.
دعنا من ذلك كله، فأنا لست هنا لأضيف عليك هما على هم «الأربعين»، ولكن لماذا حقاً شعرت بكل ما سبق؟ هذا لأنك وصلت سن تكليف الأنبياء والمرسلين، سن تجُب ما قبلها من حماقات وسخافات البشر، ويتفتح على المرحلة الملكية كما يسميها المتخصصون في علم الذات، إنها مرحلة يترفع فيها الإنسان عن كل التفاهات الماضية، ويتفرغ لروحه وإعادة ترميمها لتصبح مستعدة لمتطلبات هذه المرحلة. يا صديقي أو يا صديقتي، مرحبا في نادي الملوك، مرحبا في نادي جبر الأرواح والقلوب، مرحبا بكم في نادي إعمار القلوب مرحبا في نادي الأربعين.