صادفت أثناء زيارة سابقة لإحدى الدول الآسيوية، سائحة هندية تسكن محل إقامتي نفسه، تجاوز عمرها العقد الخامس، برفقة ابنتها التي لا زالت طالبة في سن المراهقة، وبعد تبادل أطراف الحديث مع السيدة وابنتها تعرفت على ملخص كفاحها وهجرتها للبحث عن مصدر للرزق، فقد عاشت أغلب حياتها في الهند قبل أن تهاجر إلى بريطانيا التي شهدت ولادة ابنتها الوحيدة التي عاشت كل حياتها في بريطانيا.

كانت السيدة الهندية لا زالت متمسكة بالزي الهندي، وتضع في منتصف جبهتها العلامة الحمراء التي تميز الهنود من الديانة الهندوسية، وتتحدث بإنجليزية ركيكة ممزوجة باللغة الهندية، وتهز رأسها بالطريقة التي تميز الثقافة الهندية، فالسنوات الطويلة التي قضتها في بريطانيا لم تمح بقايا اللكنة الهندية من لسانها، ولا بقايا الثقافة الهندية من سلوكها، بعكس ابنتها التي تتحدث إنجليزية أكسفورد أو لكنة BBC بطلاقة وكأنها بريطانية الأصل والمنشأ.

لا شك أن الابنة لا يمكن لها أن تندمج مع الثقافة الهندية، فالثقافة البريطانية أصبحت بالنسبة لها مثل الماء بالنسبة للسمكة، فقد تعرضت هذه الفتاة لما يعرف بالإدماج أو الصهر الثقافي، حالها حال الآلاف أو الملايين من أبناء المهاجرين الآسيويين، فهجرة شعوب المستعمرات السابقة تجاه الدول الأوروبية لم تكن عشوائية أو اعتباطية، فقد أخذت الحكومات الأوروبية في تقنين تدفقات المهاجرين وتنظيمها، وفرزها للتأكد من أن المهاجرين الجدد لديهم القابلية للاستيعاب السريع لثقافة البلد المضيف، والانصهار داخل بوتقتها وتعلم كل شيء يخص طريقة الحياة التي تمارسها الثقافة المضيفة.

نتفق على أن المجتمع البريطاني الحديث يتصف بالتنوع العرقي، وهذا بطبيعة الحال لا يعني أنه مجتمع متنوع ثقافيا، والتعددية العرقية لا ترادف التعددية الثقافية، وكثير من الحكومات الأوروبية تولي التنوع العرقي اهتماما كبيرا، فهذا التنوع العرقي الذي فرضته الهجرة والحاجة للأيدي العاملة، جعلت ثقافة المستعمَر في مواجهة جديدة مع ثقافة المستعمر، فإيديولوجيا التفوق العرقي والثقافي لا زالت تلقي بظلالها في إدارة التنوع بالمجتمع الأوروبي، مع أن كثيرا من المجتمعات الأوروبية لا زالت ترفع شعارات التنوع الثقافي والإخاء والمساواة.

فهل المجتمعات الأوروبية بالفعل تتميز بالتعددية الثقافية؟ من المستحيل أن يكون هناك تعدد ثقافي أو تنوع ثقافي في مجتمع يتبنى سياسة الأحادية اللغوية، فسياسة التعددية في أوروبا تراهن على مجتمع متنوع عرقيا، ولكنه يجب أن يكون أحادي الثقافة، لأنه عاجلا أم آجلاً سيتكلم الجميع اللغة نفسها، ويأكلون الأطعمة نفسها، ويرتدون الملابس ذاتها، ويشاهدون البرامج التلفزيونية نفسها، بمعنى أن جميع العرقيات سوف تتبنى الهوية نفسها، التي يحدد معالمها أبناء الثقافة المهيمنة.

صحيح أن الدول الأوروبية ترفع شعارات التعددية الثقافية، وهي لا تتجاوز كونها دعاية سياسية ليس إلا، ولكن على أرض الواقع فإن كثيراً من الدول الأوروبية لا تسمح بالتعددية الثقافية، بدليل أنها لا يمكن أن تسمح بوجود لغة ثانية داخل أراضيها، ونحن نعلم أن اللغة هي الركن الأساس للثقافة، فالدول الأوروبية لا تتبنى سياسة التعددية الثقافية في المناهج الدراسية، ولا تتبنى التعددية الثقافية في الإعلام، ولا تشجع الأنشطة الثقافية للعرقيات المختلفة عن طريق دعم إنشاء صحف وقنوات تلفزيونية خاصة بالعرقيات الأخرى، ولا يمكن أن تمول التعليم ثنائي اللغة أو التعليم باللغة الأم للمهاجرين.

إن المهاجرين يجب عليهم أن يكونوا مستعدين للانصهار الثقافي وفقدان اللغة، ويدركوا أن ثقافتهم ستتغير وتنحسر وتذهب دون رجعة، فالثقافة المهاجرة يجب أن تستسلم للثقافة المضيفة، تقدم لها التنازلات مقابل الحصول على الرفاهية المادية، وأول ما تتنازل عنه هو اللغة، ونعرف أنه مع اختفاء اللغة تختفي قصائد وأغانٍ ورقصات وأطعمة وصلوات جامعة، وطقوس دينية وعادات للاحتفال وطريقة إعداد موائد الطعام، باختصار: لا توجد تعددية ثقافية في مجتمع أحادي اللغة، وكل مجتمع يتبنى سياسة الأحادية اللغوية هو مجتمع لا يؤمن بالتعددية الثقافية بقدر ما يؤمن بفكرة الصهر الثقافي.