وكان الغناء هو أبرز الفنون الحجازية الأصيلة في الأربعينات والخمسينات، وكانت مكة المكرمة تنفرد باثنين من أعلام الغناء في ذلك العصر، هما زعيما هذا الفن، أعني بهما الشيخ إسماعيل كردوس، والشيخ حسن جاوة، والأخير هو والد الأستاذين أمين وجمال جاوة. وكانا يحييان حفلات الغناء التي كانت تقام دائماً بمناسبات الأعراس الكبيرة، في مكة المكرمة وجدة، وكان الغناء في الواقع يقوم على الإنشاد، ولم تكن تصاحبه آلات الطرب كالعود والكمان والقانون وغيرها من الآلات التي يشاهدها الناس، والتي تتكون منها الفرق الغنائية، فلقد كان استعمال هذه الآلات ممنوعاً بصورة صارمة خلال الأربعينات والخمسينات، بل وحتى الستينات وما بعدها، كما أنه لم تكن هناك الميكروفونات لأنه لا توجد كهرباء، وإذاعة الأذان من الحرم المكي الشريف بالميكروفون إنما تمت في النصف الأول من الستينات، ولهذا فإن المغني أو المنشد إنما كان يعتمد على صوته وحده، وكانت أصوات المغنين الذين ذكرتهم جهورية عالية الطبقات، وكان المرحوم إسماعيل كردوس أعلاهم طبقة، وأجهرهم صوتاً، وكانوا يبالغون إنه إذا كان يغني في الهدا سمعه الناس في الكر، والكر بضم الكاف والراء وتشديدها هو سفح جبل كرا وهو موضع معروف في الطريق الجديد للطائف، وكان هؤلاء المغنون يتعلمون الغناء على أيدي المغنين والمطربين المشهورين في زمانهم، وكانوا يتقنون الإنشاد إتقاناً تاماً، وما يقال عن إسماعيل كردوس يذكرني بما قرأناه في كتب الأدب عن المغني الحجازي الشهير معبد الذي كان مختصاً بشاعر الغزل الشهير عمر بن أبي ربيعة، والذي كان إذا أنشد حبس الحجيج كله ليستمع إلى إنشاده، وقد أدركت كلا من إسماعيل كردوس وحسن جاوة، شاهدتهما أولاً في حفلات الأعراس الكبيرة التي كانا يستقدمان لها من مكة المكرمة خصيصاً فيقضيان الليالي العديدة في جدة لإحياء هذه الحفلات، ثم شاهدتهما في مكة المكرمة والطائف، حينما أقمت في مكة السنوات الطوال، وتوثقت صلتي بالمرحوم الشيخ حسن جاوة الذي كان يقضي بعض أشهر الصيف في ضيافة المرحوم الشيخ محمد سرور الصبان بالطائف في بعض الأعوام، وكان رجلاً ذواقة أريباً، يعطي المجالس حقها، فإذا حضر إلى الحفل نظر إلى الحاضرين ليعرف مشاربهم فينشد لهم ما ينسجم مع أذواقهم، وتطرب له نفوسهم، فإذا كان المجلس يضم المتعلمين من الشباب مثلاً أنشدهم من شعر الغزل الرقيق، وكان يحفظ إلى جانب الشعر القديم طرفاً من الشعر الحديث، وكان هناك من يمدونه بهذا الشعر الجيد، ويطلبون منه إنشاده، وأذكر أنه بعد أن توثقت صلتي به كان يطلب مني تصحيح النطق لبعض المقطوعات الشعرية ويقول لي (ألف شيخها) فكنت أكتبها له بخط واضح وأشكلها تشكيلاً كاملاً ونقرأها معاً المرة تلو المرة، حتى يسلم له نطقها دون لحن أو خطأ، كما كان يطلب ممن يعرفهم من الأدباء اختيار ما يستحسنونه له لإنشاده. على أي حال كان الرجل ذواقة أريباً كما ذكرنا قبل، وكان يعطي لكل السامعين ما يرضي أذواقهم، وتطرب له جوارحهم، فإذا كان الجمع من عامة الناس وخاصة حينما يتجمع حوله شبان الحارة ويحيطون بدكاك العرس، كان ينشد لهم القصائد الحماسية لعنترة وأبي فراس، وإذا كان الجمع من العلماء والمشايخ الذين تمتاز مجالسهم بالوقار لجأ حسن جاوة ـ رحمه الله ـ إلى هذا الشعر الذي يعتبره بعض المتصوفين تمجيداً للذات الإلهية، ويأخذه غيرهم على أنه من الغزل العف الرقيق، كما أنه كان يختار لما ينشد الأوقات التي تتناسب مع الإنشاد، وأذكر أنه كان دائماً في آخر الليل يغني قصيدة شاعر العرب المرحوم فؤاد الخطيب في الطائف:

أيها النائم قد حان البكور وانطوى الليل كما تطوى السطور

ولقد خطت يد الله علـى صفحـة الكون من الخلـق سـطور


والتي يقول فيها في وصف حدائق الطائف:

ولقد حدثني رمـانــــها أنه كان نهوداً في الصدور

وروى لي البان عن أعطافها أنه كان قدوداً وخصـور

وكان المغنون الحجازيون يبدؤون الإنشاد بالمجس بفتح الجيم وسكون السين، وهذا المجس هو نوع حجازي خالص، وهو عبارة عن مقطوعة صغيرة تتكون من أربعة أبيات أو أقل أو أكثر من الشعر العربي الفصيح، يبدأ بها المغني إنشاده فيستثير حماس السامعين ويهيئ نفوسهم لما سيغنيه بعد، وهذا المجس يطرب له السامعون، بحيث لا يملكون إلا ترديد استحسانهم، حينما يتوقف المغني بأصوات عالية تنسجم مع نفس النغم الذي ينشد به المغني، وكان المغني يتجاوب مع هذا الترديد ويستزيد السامعين منه بنغمة خاصة يختتم بها المجس، ويسمونها المحط بفتح الميم والحاء وسكون الطاء، فتنطلق أفواه السامعين بالترديد المطلوب، الذي تصاحبه بعض كلمات الاستحسان من السامعين المتحمسين. وكان المغني بصورة عامة هو الملحن وهو المنشد، فلم تكن هناك فرقة الموسيقى أو الكورس أو خلافه مما هو معهود في هذه الأيام، ذلك أن استعمال آلات الطرب في ذلك الوقت كان محظوراً.