ثقافة الجيرة أصبحت ورقة تاريخ من الماضي.

من منا زار جاره أو حتى تعرّف عليه، يحيط بِنَا الجيران من اليمين واليسار ومن أمامنا ومن خلفنا، أستطيع أن أجزم أن 90 في المائة منا لم يقم بأي مبادرة للسؤال عن جاره، وكأنه يساير المثل القديم غير الحكيم «خليك محلك يا جاري انت بدارك وانا بداري»، وأنا ودي أعرف من صاغ هذا المثل، هل كان يستشرف المستقبل فعرف أنه سيأتي قوم ذوو قلوب قاسية لا يقيمون للجيرة أهمية ولا يعطونها أي تقدير.

أين تلك الأيام الحلوة الدافئة التي كان الجار قبل ما يأكل من طبخة اليوم لا يهنأ له بال إلا إذا طرق باب أقرب جار ليخصه ببعض من ذلك الطعام، وإن كان على ما قسم، المهم يعلم أن جاره قد شاركه تلك (الأكلة) ولو كانت مجرد (ذواقة) ثم يعود إلى البيت ويقول لأولاده هاتوا (الغدا يا أولاد) أبشركم جيرانكم وصلهم المقسوم، فيفرح الجميع وتنبري أم البيت وتقول والله يا أبو أحمد (انو عل قلبي زي العسل دوبني ما تهنيت) لقمة هنية يا أبو أحمد تكفي مية.

وأحيانا يصل أبو أحمد ويقول لأم أحمد لما مريت على الجزار حصلت عنده لحمة زي الزبدة اشتريت كيلو سوي (نصه) كباب والنص الثاني أرسليه لجيراننا بيت أبو جميل.

هذه العادة الجميلة هي ثقافة أهل الحي كلهم، وما يمنع إذا مر الجار وشم رائحة طبخة أن يرسل إحدى بناته للجار، ويقول قولي لهم أن أبوي مر من جنيب البيت وشم (ريحة تقلية الملوخية) ومن فضلكم نبغي منها شوية، فيقول الجار لأم العيال يا خديجة توصي بجارنا وخلي لنا شوية اللي تكفينا.

كان لما ينزل ساكن جديد لا يطبخ لمدة ثلاثة أيام، فالجيران متكفلون بهم فطور وغداء وعشاء، غير الفزعة في تنظيف البيت وترتيبه.

أيام كنّا نمر ونحن صغار من عند بيت الجار وقد يكون السابع بعد العاشر فتسمع ربة البيت تنادي: يا ولد، فنتوقف وكأنه أمر عسكري، نعم يا أمي ترد (بله) الله يعافيك خذ صينية البطاطس لراعي المخبز ويخليها تستوي، طيب نرد عليها حاضر، ويأخذ أحد النشامي مننا وكلنا ذاك (البزرة) ثم بعد ما نعرف متى تنتهي نوصلها لخالة فتو أم سراج نتو.

كنت تسمع صوتا ينساب من ثنايا الروشان: يا ولدي أنت يا حمدتو، ترد: أنا ماني حمدتو يا خالة أنا دحمي، ترد عليك: قصرو شوف الزنبيل اللي راح أنزله من الروشان، وروح لعمك يسلم خليه يعطيك زي ما في الزنبيل، وتأخذ الزنبيل وفيه حبة رز وحبة سكر وحبتين بن، وتوريها يسلم اللي في الدكان اللي جنبنا وقله من خالة مريم، وتوصل له الزنبيل الذي يعرف شفرته فيضع من كل نوع قليلا في قرطاس، وتقول له ياعمي يمكن أم عمر نسيت الفلوس يرد عليك ما بين الخيرين حساب لما تتيسر (حترسلي).

وين تلك الأيام عن هذه الأيام، يمرض الجار ما نعلم عنده فرح لا يدعوك، تتلم النسوة من هنا وهناك لسهرة ولا تدري الجارة إلا مع صوت المسجل وهو يجلجل، حتى في الأعياد لا نرى بعضنا، بل الأدهي من ذلك خير وبركة إذا سلمت من أذية جارك، سواء بالأصوات المزعجة أو تجميع القمامة ثم دفعها كومة كومة إلى جهة بابك، أو يوقف سيارته أمام باب دارك لأجل لا يشوه منظر بيته.

ما أحوجنا إلى إعادة مفهوم الجيرة الحلوة النبيلة، ولكن يا ليت عمرها ما كانت بتعمر جيرة.

الحقيقة نحن لسنا مقصرين فقط بل محلقين على الزيرو بالبلدي، كدا زلا بطة ولا زلا وزة، المهم افهموها و«فشروها كويش».