شيئاً فشيئاً أضحت أزمة كورونا الطارئة من الأزمات التي يتعين على العالم القبول بها والتعايش معها بغض النظر عن المخاطر التي ينطوي عليها هذا التعايش الإجباري مع الأزمة، فالفيروس القاتل لم يترك نشاطاً من أنشطة الحياة ومفاصلها المؤثرة إلا وتسلل إلى أعماقه، فأصبح على صانعي القرار في جميع الدول أن يقبلوا بهذا الواقع ويبحثوا عن أنجع السبل في تقليل المخاطر المترتبة عليه، كما يتعين عليهم أيضا البحث عن أفضل البدائل التي تضمن استمرار الأنشطة الحياتية وتحديث وتطوير هذه البدائل في كافة المجالات. واحدة من القطاعات الحيوية والحساسة في جميع الدول والتي وجدت نفسها في قلب العاصفة هي قطاع التعليم بكل ما يحمله من أهمية ليس في حاضر الدول والشعوب فقط وإنما في مستقبلها القريب والبعيد أيضاً. في السطور التالية سنحاول تسليط الضوء على أهمية استمرار العملية التعليمية في ضوء أزمة كورونا الراهنة، والبدائل المتاحة لذلك، لا سيما "نظام التعليم عن بعد" والفرص التي من الممكن استغلالها عبر تفعيل هذا النظام في ظل تعذر التواجد المكاني للطلاب إيثاراً لسلامتهم وسلامة أعضاء الهيئة التعليمية. فقد فرض نظام "التعليم عن بعد" نفسه كخيار مفضل من بين البدائل المتاحة، فهو وبرغم قصوره في كثير من الجوانب فإنه قابل للتطوير والتحسين المستمر لاستخلاص أبرز مزاياه وتطويرها بحيث نصل إلى أفضل النتائج، أو على الأقل نستطيع عبره تفادي بعض سلبيات الغياب القسري للطلاب عن القاعات والمعامل والمكتبات وغيرها من المرافق التعليمية.

فأولى هذه الفرص التي يمكن استغلالها من نظام "التعليم عن بعد" هي نشر وإشاعة أفضل الممارسات التعليمية وتوزيعها بصورة موثقة ومسجلة، فعبر هذه الطرق التدريسية المتعددة نستطيع إنشاء قاعدة بيانات متكاملة من عدد من المحاضرات في كل مادة على حدة بواسطة عدد من المعلمين، مما يوفر للطالب خيارات متعددة يتمكن من خلالها اختيار أنسب الطرق التي يستطيع عبرها فهم المحتوى العلمي بواسطة معلم من بيئته المحلية، كما يتمكن المعلم نفسه من تطوير نفسه وتنمية ملكاته في عملية التدريس باطلاعه على عدد من الطرق والأساليب التدريسية المختلفة من قبل أقرانه ونظرائه معلمي المادة نفسها.

ومن فرص التطوير التي يتيحها نظام "التعليم عن بعد"، أنه يوفر أرضية متكاملة ومسجلة لاستخدامها في البحث العلمي عن أوجه التميز والقصور في النظام التعليمي السعودي، على سبيل المثل أسباب تفاوت المستويات بين الطلاب، إن كانت هذه الأسباب ترجع لخلل في أداء بعض المعلمين، فعن طريق المحاضرات المسجلة نستطيع تقييم أداء المعلمين والوقوف على أبرز نقاط الضعف والقصور في الأداء، فمن شأن ذلك أن يساعد الباحثين والمختصين في تطوير وتحسين العملية التعليمية وتنمية مهارات المعلمين.

أيضا يوفر نظام "التعليم عن بعد" للمعلمين فرصة التكامل بين معلمي المادة الواحدة في أكثر من مدرسة عبر الاتحاد في مجموعات تعليمية واستخلاص أفضل الميزات والمهارات التي يمتاز بها كل معلم والاستفادة من هذه المهارات المتنوعة لإثراء البيئة التدريسية وإنتاج محتوى تعليمي متكامل يفيد الطلاب.

كذلك يستطيع نظام "التعليم عن بعد" تمكين الطالب من اختيار المعلم الملهم الذي يناسبه، فمن سمات هذا النظام أنه يلغي القيود الجغرافية، فلا يعد الطالب مقيدا بحدود مدرسته فقط، وليس ملزما بالتتلمذ على معلم لا يرتاح له، فاختيار الطالب للمعلم المناسب له بنفسه، لا شك أنه يمنحه حافزاً ودافعاً أكبر للتعلم.

إضافة لكل ذلك يمكننا من خلال نظام "التعليم عن بعد" إثراء المحتوى التعليمي الرقمي بالمملكة وإنشاء أرشيف تعليمي ضخم يمتد أثره للأجيال القادمة، فإذا جمعنا كل المواد العلمية المسجلة من جميع المدارس من المؤكد أننا نستطيع منها انتخاب محتوى تعليمي مثالي يكون بمثابة نموذج ومرجع تعليمي يمكن أن يعمم وينشر في جميع المدارس.

إن العملية التعليمية- أيها الكرام- غاية في التعقيد لن تنجح إلا بتكاتف الجميع- وبالإضافة إلى ما أضافه فيروس كورونا من تعقيد زاد الأمور صعوبة.. إلا أن الفرص أعلاه وغيرها الكثير لو استغلت ستكون كفيلة بتحقيق إنجازات تحقق تطلعات خادم الحرمين الشريفين وطموحات سمو ولي عهده الأمين، حفظهما الله، التي أرادها لهذه البلاد في رؤية 2030.