يحدثك عن الأندلس ومدنها قرطبة والزهراء... الخ، كأنه يحدثك عن الإسلام متناسياً أن الإسلام لو تجسد على شكل مكان جغرافي لما كان سوى (مكة والمدينة) فقط، لكنها المغالطة التاريخية لقراءة الإسلام خارج نطاقه الروحي، فالدولة الأموية ومن بعدها العباسية، عندما أرادوا إنشاء إمبراطوريتهما بحثوا عن موطئ قدم يعج بأسباب (الحضارة والمدنية) قبل الإسلام، فاختاروا عاصمة من أقدم العواصم التي عرفتها البشرية (دمشق) في (سهل خصيب يرويه نهر بردى)، ثم اختار العباسيون بغداد ليبنوها على ترادف حضاري سابق يمتد من (بابل القديمة إلى سلوقية الإغريقية وقطيسفون الفارسية، التي كانت تعرف بمدائن كسرى، ثم بغداد العربية) على ضفاف نهر دجلة وبجواره الفرات، وقد (استخدم أبو جعفر المنصور بعضاً من حجارة قطيسفون والمدائن في بناء بغداد).

الحضارة إنسانية وليست دينية أو عرقية أو طائفية، وكل مجال حضاري في العصر الحديث يحاول إعادة عقارب الساعة للوراء سيسقط ليحمل راية الحضارة من هو أكثر وعياً وإدراكاً، وبالتالي قوة لمعنى نشر القيم الإنسانية، تلك القيم التي لم ترتبك اليابان في الأخذ بها، فهم لا يتحسسون من تهم (التغريب لمجرد التخلي عن اللباس التقليدي، بينما قد تجد دولة أخرى لم تتخل عن لباسها التقليدي لكنها تخلت عن لغتها الأم لصالح الإنجليزية أو الفرنسية) رغم أن علماء الاجتماع يدركون أن طمس الهوية ليس في تغيير اللباس أو المسكن أو حتى طريقة الكتابة من حروف عربية إلى لاتينية أو العكس، بقدر ما هو في تغيير اللغة، فالهوية باختصار هي (اللغة) وما عداها مماحكات شكلية لا قيمة لها، فلو ناضلت دولة عربية في سبيل ترجمة العلوم والمعارف للباحثين وفرضت لغتها الأم في جميع تخصصاتها باستثناء الدراسات العليا، لاكتشفنا كم أن (البنية اللغوية العربية) لهذا الشعب العربي قد خرجت من إطارها (الشعري الخرافي) إلى إطار (علمي تقني) لتصبح أكثر ثراء واستيعاباً للمعارف، ولهذا فلنتواضع ونقل شكراً لكل المترجمين العرب من أقصى بلاد الرافدين حتى أقصى المغرب العربي.

الحضارة ليست دينية ولا عرقية، فقيام الحضارة الأموية أو العباسية لا يعني قيام الإسلام وكذلك سقوطهما لا يعني سقوط الإسلام، ففي تفاصيل الدولة الأموية والعباسية ما لا علاقة له بالأديان التوحيدية الثلاثة عدا أن يكون له علاقة بالإسلام وحده، فالذي نهض بهذه الحضارات يرتكز على وجود الإرادة السياسية الواعية بواجبها تجاه تعدد الانتماءات العرقية والدينية (علاقة معاوية بيحيى الدمشقي نموذجاً) مما يصنع (هجرة العقول) التي جعلت كثيراً من الأسر ذات الأصل الفارسي والرومي الأكثر ثقافة وتعليماً ينتظم في الجهاز الإداري لهذه الإمبراطوريات، والتي كانت تعاني منها أوروبا في هجرة عقول أبنائها إلى الأندلس.

ولهذا فحكاية (هجرة العقول) تتضمن معنى إنسانياً مفقوداً لا تجده العقول الاستثنائية إلا في الغرب، وهنا تسقط كل الشعارات الإيديولوجية باسم الدين أو العرق، فألمانيا عندما فقدت معناها الإنساني وهي قلب أوروبا النابض بالفلسفة والفكر والصناعة، وانحرفت بها البوصلة باتجاه عرقي مريض رأينا تحالف البشرية شرقاً وغرباً لسحق هذا الورم السرطاني في جسد الحضارة الغربية المسمى (النازية)، إلى حد تجريم أي خلية من خلايا الجسد تدافع عن النازية أو التبرير لجرائمها العرقية.

من يغره الاتساع الجغرافي للإمبراطورية العثمانية واحتلالها لأجزاء من الدولة المملوكية قد يطربه تمدد الدولة المغولية أكثر، فالتمدد (بنصف مليون جندي باتجاه بغداد ونهبها وتدميرها عام 1258م بعد أن رفض الخليفة المستعصم بالله أن يخضع لهم ومنها اتجه هولاكو المغولي إلى سورية... الخ) فهل القوة العمياء التي يؤمن بها من لا يعرف معنى (دولة حديثة مبنية على تراكم حضاري تاريخي ضخم) هي التي أعمتنا عن قراءة ما يفكر فيه بعض الغرب ممثلاً في إنجلترا عام 1215م لتخرج من عندهم وثيقة الماجنا كارتا، أي خرجت هذه الوثيقة قبل تمدد المغول في الشرق بحوالي ثلاثة عقود، لكنه التراكم التاريخي الذي يؤدي لتغير نوعي نراه الآن في الحضارة (الغربية)، فلم تعد تسمي نفسها (المسيحية) لأنها تجاوزت مآزقها مع الأكليروس ضد (العقل الحديث)، والعقل المقصود هنا هو عقل ما بعد ديكارت وفرانسيس بيكون وغيرهما ممن أعادوا على أنفسهم سؤال العلم بالمعنى الحديث للحضارة في كل تجلياتها الفيزيقية والميتافيزيقية.