عنوان كتاب الدكتور عبدالله محمد الغذامي مذيل بـ«كيف لعقول البشر أن تؤمن أو تلحد»، هنا يجد القارئ تعميما كبيرا ومتسعا شمل عقول البشر!!. والكتاب لا يقدم جوابا علميا مبنيا على دراسات وأبحاث وأرقام يطمئن إلى نتائجها، تبين كيف لعقول البشر أن تؤمن أو تلحد. العينات المحدودة والتي ذكرها المؤلف في (ص 6) «واخترت لذلك سبعة نماذج»، حسب رأينا، لا يستطيع الباحث أن يضعها كمعيار لإيمان أو إلحاد البشر، حيث إن (علاقة الإنسان وإيمانه بالخالق أمر خاص بالفرد - تختلف من فرد لآخر ومن القناعة والخلفية العقدية والنظرة للكون حسب التركيبة الذهنية «mind set» للفرد، والميل نحو أنماط فكرية معينة «thinking patterns...الخ». ففي هذا الإطار يصعب التعميم بل ويحتمل الخطأ أكثر من الصواب. هناك «لا دينيين» بلغت نسبتهم 61 % في الصين و47 % في كوريا الجنوبية (المصدر: ar.m.wikipedia.org) وبينهم مئات العلماء والمفكرين، لهم معتقداتهم الخاصة، ومفهوم الإيمان لديهم بخالق الكون من عدمه غير ما ينظر إليه الموحدون بالديانات السماوية.

يذكر مركز الأبحاث الأمريكي بيو Pew Research Center)) في دراسة إحصائية أن نسبة الملحدين تقدر بـ16 % من إجمالي سكان الأرض، وإذا نظرنا إلى تعداد البشر عام 2019، فالإحصائية تذكر (7.67 مليارات نسمة) وبحساب عدد الملحدين من هؤلاء تكون النتيجة 1.2272 مليار ملحد، فكيف أصبحت هذه الأعداد البشرية ملحدة؟ وما هو نوع إلحادها؟ والبقية آمنت فأي نوع إيمانها؟.

ومن الدراسات المهمة في هذا السياق، الدراسة الثانية، التي قامت بها الباحثة آلين أكلوند عام 2011م لدراسة مجموعة كبيرة من العلماء عددهم حوالي 10 آلاف عالم أصحاب تخصصات مختلفة فيزياء- أحياء- وغيرها من دول مختلفة، فرنسا، هونج كونج، إيطاليا، أمريكا، بريطانيا، تركيا، تايوان، والهند. وقابل فريق البحث 600 عالم لمناقشات مطولة استغرقت ما يقارب 5 أعوام فكانت أبرز النتائج (فرنسا 51 % ملحدون والمؤمنون 24 % و 25 % لا يدرون)، (أمريكا 35 % ملحدون 36 % مؤمنون و29 % لا يدرون)، (هونج كونج نسبة المؤمنين 54 % ونسبة 46 % تتوزع بين ملحد ولا أدري) (إيطاليا نسبة المؤمنين 74 % ونسبة 26 % تتوزع بين ملحد ولا أدري)، (الهند نسبة المؤمنين 79 % ونسبة 21 % تتوزع بين ملحد ولا أدري)، (وتركيا نسبة المؤمنين 85 % ونسبة 15 % تتوزع بين ملحد ولا أدري)، المصدر مقداد درويش في مقال «هل العلماء مؤمنون أم ملحدون؟»- 19 نوفمبر 2017.

حول بعض الآراء النقدية:

وجه المؤلف نقده إلى طريقة تفكير العالم ستيفن هوكينج وعقدة العلموية عنده وقصور العلم والوهم العلمي ونقض ما يسمى بالحتمية العلمية. والملاحظ في مواقع عدة من الكتاب أن آراء وأحكام د. الغذامي النقدية مبنية على آراء وحوارات ومقالات علماء في الطبيعة وفلسفة العلم، اختار مقالاتهم بعناية، والتي قد تكون لامست هوى في النفس، مثل جون لينوكس وما كتبه عن ستيفن هوكينج صفحات (33 إلى 39). كما أن المؤلف لم يأت مثلا برد ستيفن هوكينج فيما لو رد أو غيره من العلماء، حيث إن هوكينج كان حيا عندما نشر مقال لينوكس عام 2010 وستيفن مات عام 2018. وللدكتور لينوكس مناظرات مع ملحدين منشورة في اليوتيوب تتناول ردود الآخرين على آرائه لم يتطرق إليها المؤلف، (انظر: Michael Ruse vs. John Lennox, Science, faith, and the evidence for God)

إنه من الأهمية بمكان أن تعرض الآراء المتباينة لكي تصبح الصورة متكاملة ومنصفة أمام القارئ، فإن لم يكن كذلك فسيقال إن المؤلف متحيز إلى آراء وأقوال طرف واحد فقط. وهنا يستحضر كثيرا مما جاء به كتاب «إشكالية التحيز في النقد العربي المعاصر» تأليف الدكتور علي صديقي، الطبعة الأولى 1437 /‏2016، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع. عمان، الأردن.

والملاحظ استخدام المؤلف عبارات وصفية سيقال عنها غير علمية، مثل ما جاء في صفحة 28 يقول د. الغذامي (ولذا فإن توريط هوكينج نفسه في مقولة (الحتمية العلمية) هو ما جعله يجافي مقولاته الأصلية، وهذا نوع من الانتحار المعرفي أو هو حال من الهروب نحو الهاوية، كمن يفر من شبح يلاحقه فيحاول الخلاص ولو بالقفز نحو الهاوية)، وفي (ص34) يورد على رأي ليونكس (إن لدى هوكينج التباسا مفاهيميا حول طبيعة الإله، والثاني التباس حول مفهوم التفسير العلمي للظواهر). وتكثر عبارات غير دقيقة علميا في الكتاب. فهل لدى هوكينج التباس حول مفاهيم التفسير العلمي للظواهر؟ لو كان كذلك لما كان أشهر عالم فيزياء في الكون، وغطت سمعته العلمية أنحاء الأرض في مجال علم الكون، والذي اعتبره البعض العقلية الفذة بعد أينشتاين في المائة عام الأخيرة. نحن لسنا مع ستيفن هوكينج أو غيره في عدم إيمانه بخالق للكون ومفهوم الإله عنده، ولكن من الإنصاف النظر إلى منجزات العالم أيا كان بفكر محايد ومستقل. لإقناع مثل هؤلاء العلماء يتطلب الموقف إثباتات وبراهين علمية محضة تعارض أو تنقض منجزاتهم وتجب علميا على ماذا كان قبل نشأة الكون، والذي لم يستطيعوا التوصل إليه. وكان على جون لينوكس كعالم رياضيات وفلسفة بدل المجادلة والحجج غير الحاسمة، والانتقاد غير الموضوعي الذي لا تدعمه براهين وأدلة علمية الاشتغال على إنجاز نظرية جديدة تفسر حالة ما قبل نشأة الكون ومن أوجد الكون، والتي عجز عنها هوكينج وبقية علماء الطبيعة أو يأتي «بنظرية كل شيء». وهنا يبرهن علميا لستيفن هاوكينج والآخرين من العلماء، ما لم يتوصلوا له، وهم الذين اعترفوا بعدم إمكانيتهم الجواب على «ماذا كان قبل الانفجار العظيم وأن للكون خالقا»، وبهذا يكون قد حل معضلة معقدة أشغلت العلماء والفلاسفة عبر مئات السنين، وسيرشح للفوز بجائزة نوبل بلا شك ويثنى عليه في المحافل العلمية.

حدود العلم:

يكرر المؤلف قول «إن العلم لا يستطيع الإجابة عما قبل نشأة الكون ولماذا نحن موجودون، وإلى أين نحن ذاهبون، والعلم محدود..الخ» وهنا يكون المؤلف محقا في بعض ما ذهب إليه. ومن باب المعرفة قام كل من العلماء «ألان جوث، أندريه ليندي، بول شتاينهاردت، وآندي البريشت، بتطوير نظرية تضخم الكون (inflation theory of the universe) والتي تحاول أن تقدم حلولا للعديد من الأسئلة المفتوحة في علم الكونيات وتقترح فترة زمنية من التوسع السريع جدا للكون قبل التوسع التدريجي للانفجار العظيم، ويعتبر التضخم الآن امتدادا لنظرية الانفجار العظيم. العلم لا يقول بأنه انتهت اكتشافاته وتوصل لكل شيء يود الإنسان أن يعرفه عن الكون وخالقه ولا العلماء ادعوا ذلك. لنتذكر أن العلماء الماديين يتعاملون مع الطبيعة من بوابة المحسوس والمشاهد والتجارب والتحليلات الرياضية. أما ما كان من الماورائيات فلا يسلمون به. العلم يقدم من خلال الأبحاث والتجارب ما يفيد البشرية جمعاء. يوميا تصلنا الاكتشافات المذهلة من بوابة العلم وليس من الفلسفة أو غيرها. البشرية تنعم بمنتجات العلم، فهذه الطائرة والسيارة والجوال والتلفزيون والنت وجي. بي. أس. والرنين المغناطيسي والأشعة السينية والخارطة الجينية والسفن والغواصات البحرية، والمراكب الفضائية لاكتشاف المجهول من الأكوان، والقائمة كبيرة جدا، وهي في اتساع لحظي نفعت البشرية قاطبة، فلا يستهان بالعلم ودور العلماء. والملاحظ انحسار نسبي لدور الفلاسفة في الوقت الذي يتقدم العلماء بسبب أن العلماء يشتغلون على تقديم منجزات وأجوبة لكثير من الأسئلة. لا أحد يتصور كيف سيكون العالم بدون إنجازات العلماء من خلال العلم. يقول المؤلف في (ص 48) «ومذ أعلن هوكينج موت الفلسفة وتغافل عن معاني النفس والروح وهو يبحث عن بديل يسد النقص دون أن يجده».. يبدو أن المؤلف يتصور أن النفس والروح تمتلكان الأجوبة، فلو سأل أحد العلماء الماديين أو الفلاسفة عما هو تعريف الروح علميا وكذلك النفس؟؟ فماذا عسى أن يكون الجواب عند المؤلف؟ والله جلت قدرته يقول في محكم التنزيل «ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا» (الإسراء 85).