اتفق لي، وأنا أقرأ مجلة المنهل، أن وقعت على وثيقة أدبية طريفة لها شأنها في تاريخ الأدب والثقافة في المملكة، ولا أذكر أنه مر بي شيء من نبئها، قبل اليوم.

تحتل الوثيقة أربع عشرة صفحة من صفحات مجلة المنهل (ذو الحجة 1380 = مايو 1961)، وموضوعها أول مهرجان للشعر في تاريخ الأدب في هذه البلاد، وهاكم شيئا من نبئها.

نفهم من التقرير المفصل الذي كتبه عبدالقدوس الأنصاري – رئيس تحرير المنهل – أن مدرسة الثغر النموذجية، بمدينة جدة، في عهد مديرها اللامع محمد فدا، وراء هذا «المهرجان»، وأنه ألفت لجنة ـ أسماها هيئة ـ لهذه الغاية، أعضاؤها هم عبدالقدوس الأنصاري، وعبدالله عبد المجيد بغدادي، مدير التعليم بمكة المكرمة، آنئذ، والشاعر ماجد الحسيني، ومحمد فهمي ـ ويظهر لي أن هذا الأخير من كبار مدرسي الثغر النموذجية ـ وتولت الهيئة وضع برنامج خاص لـ«المهرجان»، وتوزيع رقاع الدعوة على الحضور، وإرسال برقيات إلى المدينة المنورة، وجازان، بهذا المعنى. وقامت فكرة «المهرجان» على استعراض دواوين شعرية حديثة لشعراء سعوديين وعرب مقيمين في المملكة، وهي ديوان القلائد للشاعر السعودي محمد علي السنوسي، وعبير القلب للشاعر السوري عارف قياسة، والإلياذة الإسلامية للشاعر السعودي محمد إبراهيم جدع.

عقد «المهرجان» الشعري في ليلة السبت 28 شوال 1380، واقتصرت المشاركة فيه على ثلاث مدن، هي جدة، والمدينة المنورة، وجازان، ورعاه جميل الحجيلان، يوم كان مديرا عاما للإذاعة والصحافة والنشر، واستغرق «المهرجان» زهاء ساعتين ونصف ساعة، تحدث فيه عشرة أدباء وشعراء من المملكة العربية السعودية، والجمهورية العربية المتحدة (مصر وسورية)، وتونس، وقدمت فيه ثلاثة بحوث، أولها درس فيه عبدالقدوس الأنصاري ديوان القلائد، وثانيها درس فيه محمد فهمي ديوان الإلياذة الإسلامية، وثالثها درس فيه الشاعر عبدالحميد ربيع ديوان عبير قلب.

لم يخل «المهرجان» ـ المعدود أول مهرجان للشعر في البلاد ـ من كلمات خطابية، عرفنا منهن كلمة لمدير الثغر النموذجية محمد فدا، وثانية لراعي «المهرجان» جميل الحجيلان، وثالثة لمدير التعليم بالمدينة المنورة الأديب الناقد عبدالعزيز الربيع، ورابعة لرئيس تحرير المنهل الأنصاري، وخامسة لعضو هيئة «المهرجان» الشاعر ماجد الحسيني.

كانت المناسبة خلاصة لما اضطربت فيه الحياة الثقافية، في ذلك الزمن، وجلا لنا تقرير الأنصاري قدرا طيبا مما دار في تلك الليلة: افترق القوم فريقين؛ فريق يزري بالشعر الحر والشعر المنثور، وعلى رأسه الأنصاري نفسه، وفريق لا يرى في هذين الفنين بأسا على الشعر والذوق، ومن أصحابه الشاعر السعودي أحمد الفاسي. قال الأنصاري: إنه يخشى أن هذا الشعر الحر أو المنثور إحدى دسائس الاستعمار والاستشراق على اللغة العربية ومقوماتها في نثرها وشعرها، وما الدعوة إلى إبدال العامية بالفصحى، والحرف اللاتيني بالحرف العربي إلا وجه من وجوه تلك الدسائس!

لكن هذا «المهرجان» لم يعقب، ولبث أدباء البلاد يتحينون خلفا له، حتى كان «المؤتمر الأول للأدباء السعوديين»، في عام 1394 = 1974، أي بعد أربعة عشر عاما من ذلك «المهرجان» المجهول. فما مخبآت ذلك «المهرجان» الذي كان أشبه بحلم لذيذ استغرق ساعتين ونصف ساعة، بل ما حقيقته؟!

الحق أن تقرير الأنصاري، على نفعه، كان مضللا! ذلك أننا ـ على إعجابنا بما اشتمل عليه من تفاصيل طريفة ـ لا نملك إلا أن نحار ونسأل: لم كان «المهرجان» في ساعتين ونصف ساعة؟ ولم اقتصر على ثلاث مدن دون سواهن؟ وثلاثة شعراء، فحسب، في بلاد الشعراء فيها كثير عديدهم؟!

غلب على ظني – ساعة قرأت تقرير المنهل - أن «المهرجان» إنما هو فكرة من أفكار الأنصاري، وسرعان ما استذكرت أن الشيخ أنشأ، في شبابه، ناديا أدبيا دعاه «الحفل الأدبي»، وأن له أوليات في الرواية، والصحافة الأدبية، والآثار، والتاريخ، فإذا قرأنا مجلته المنهل رأيناه يدعو إلى «مجمع لغوي»، و«لجنة للترجمة والتأليف والنشر»، و«أطلس» للبلاد السعودية. ثم إنه لم يدع إلى «المهرجان» إلا شعراء يوافقونه في المنهج والغاية، كالسنوسي وجدع، وغاب عنه شعراء آخرون، من نواحي المملكة كلها، بل من جدة، حيث عقد؛ فلم نقرأ في تقريره المفصل أن محمد حسن عواد، وهو شاعر وأديب مذكور، كان من شهوده، ولم نقرأ أسماء محمود عارف، ومحمد علي مغربي، ومحمد سعيد العامودي... إلخ.

وخيل إليّ أن اختيار مدرسة الثغر النموذجية جاء لغايتين: أن المدرسة كأنما هي التي نظمت «المهرجان»، وكأنه نشاط ثقافي وتربوي معهود، لا يقتضي أن تطلب المدرسة ولا هيئة «المهرجان» إذنا من الدولة، والغاية الأخرى أن الثغر النموذجية – ولا ننس أننا في عام 1380 = 1961 – ذات مقر حديث، من مرافقه قاعة واسعة الأبهاء، مكيفة الهواء، شهدت، بعد ذلك «المهرجان» اليتيم، ندوات ومحاضرات، حتى السنوات الأولى من القرن الخامس عشر الهجري! ولم أستبعد أن الشيخ عبدالقدوس إنما أغرى القائمين على المدرسة، وزين لهم المشاركة في «المهرجان»، متى عرفنا أن بحثين من بحوث تلك الليلة، كانا لاثنين من معلميها!

كنت سأستسلم ـ رغم ما أنا فيه من حيرة ـ لكلمات الأنصاري، وكنت سأسلم له أن «ندوة» الساعتين ونصف الساعة «مهرجان»، مهما نظم على عجل! لولا أن كتاب الملك فيصل والمدرسة النموذجية للباحث المدقق مشعل الحارثي كان قد أفرد فصلا من فصوله للنشاط الرياضي والفني والثقافي، فلما بلغت هذا الأخير، راعني أن مدرسة الثغر النموذجية بجدة أرادت أن يتضلع طلابها من ألوان الثقافة، ويتخيروا منها ما كان متينا نافعا، ولم تكفها المكتبة، على جلالتها، وإنما وصلتهم بأعلام المفكرين والمثقفين والأدباء والكتاب، فكانت ندوة ثقافية، تعقبها ندوة تربوية، فمسرحية، فمعرض فني، فمحاضرة ثقافية، فمسامرة مدرسية. ولم يرد القائمون على المدرسة أن تكون الثقافة أمرا هينا لينا، وحسبهم أن يشهد ذو القعدة من سنة 1384 محاضرتين لمستشرقين جليلين، أولاهما للمستشرق الفرنسي شارل بلا، موضوعها «الاستشراق»، وكان المعقب عليها الأديب محمد حسين زيدان، وأخراهما للمستشرق المجري المسلم عبدالكريم جرمانوس، عنوانها «الأحاسيس والانطباعات التي يتلقى بها الأوروبي المثقف الحقائق الإسلامية ويأخذ بها عقيدة ودينا»، قدم لها الأديب محمد حسن كتبي. وأدركت، حينئذ، أن ما دعاه الأنصاري «أول مهرجان للشعر»، ليس إلا «ندوة أدبية»! وأنها كانت أول نشاط ثقافي تحييه المدرسة، بعد تحولها من الطائف إلى جدة، سنة 1380، فكانت في عرف المدرسة ـ وهذا هو الصحيح ـ «ندوة أدبية»، مهما أرادها صاحب المنهل «مهرجانا»، بل «أول مهرجان للشعر في البلاد»!.

فلم عدّ الأنصاري «الندوة الأدبية» «مهرجانا»؟ ولم سمى الأشياء بغير أسمائها؟.

ليس لنا أن نقول: إن الأنصاري ساوى بين «الندوة» و«المهرجان»، لكننا نرجح أنه رضي بالقليل طمعا في الكثير، وعساه كان يستقل كلمة «ندوة»، وتطربه كلمة «مهرجان»، بعد أن لبث هو وأنداده من الأدباء السعوديين يدعون إليه ويحلمون به، وربما طوى خلف أضلعه ألما غار في نفسه أفصحت عنه «ندوة» الثغر، وما استطاع كتمانه.

تبوح كلمة الأنصاري، تلك التي وطأ بها بحثه عن ديوان القلائد، بأمر مسكوت عنه، لم يستطع الشيخ عليه صبرا، وإن تأخر زمانه!

كان أول ما باح به صاحب المنهل أن تذكر مهرجانا آخر قديما، لم تطؤه الذاكرة بجبروتها، مهما تقادم عهده. كان ذلك يوم اجتمع أدباء العرب، عام 1346 = 1927 لمبايعة أحمد شوقي أميرا للشعراء! وفدوا إلى القاهرة من المشرق والمغرب، إلا الحجاز! ولم يشأ شوقي أن يغفل ذلك فقال في نونيته البديعة:

يا عكاظا تألف الشرق فيه *** من فلسطينه إلى بغدانه

افتقدنا الحجاز فيه فلم نعثـ *** ـر على قسه ولا سحبانه!

آلم البيتان أدباء الحجاز، وعارض أحمد الغزاوي وفؤاد شاكر هذه الشوقية، وها هو ذا الأنصاري يتذكر جرحا لم يكن إلى اتقائه من سبيل، وعساه رجا، بعد أربعة وثلاثين عاما من مهرجان شوقي، أن لو مد في حياة أمير الشعراء ليشهد نشاطا ثقافيا أرادته مدرسة الثغر النموذجية «ندوة أدبية»، محدودة بحدود نشاطها التربوي، وأبى صاحب المنهل إلا أن يدعوها «مهرجانا شعريا»، وزاد فاعتد الندوة «أول مهرجان للشعر» في هذه البلاد.

وليس بخاف أن الشيخ – وهو لا شك معذور – كأنما أراد أن يصيح، بملء فيه، ويسمع أدباء يعرفهم بأسمائهم، في مصر وسورية ولبنان: أن لدينا أدبا جديرا بأن ينظر فيه، وشعراء قمينون بالإصغاء إليهم، وكان يرضيه أي شيء! كان يرضيه أن يسمي الأشياء بغير أسمائها، حتى لو أسرف على نفسه، فدعا ندوة أدبية في مدرسة، غاب عنها عدد وافر من أدباء المدينة التي أقيمت فيها = «أول مهرجان شعري»، وأن يرى في تلك «الندوة» – أستغفر الله «المهرجان»! – رد اعتبار إلى بلاد كانت «مهد الشعر العربي».