عندما تقرأ ترجمة عابرة لأكاديمي شاب في علم الاجتماع، يستعرض فيها مسألة يراها من بدهيات المعرفة، ويستنكر من خلالها إصرار الباحثين الغربيين على استنطاقها من جديد عبر وسائل البحث العلمي، للتأكد من صدقيتها واعتبار ظنهم الأولي عنها مجرد فرضية بحاجة لدراسة وبحث وتأكيد أو نفي، يتأكد لك أن هذا الأكاديمي فاته الاطلاع على (تاريخ العلم) و(فلسفة العلم) وأثر (الشك) في استنطاق الحقيقة داخل مواضعات البداهة (المظنونة) وتجلياتها عبر منطق البحث العلمي، حتى ولو أدى الأمر إلى النتيجة نفسها المعروفة سلفاً، لكنها وعبر البحث العلمي أصبحت (علمية)، ولهذا قيل: (فلسفة العلم بدون تاريخ العلم خواء، وتاريخ العلم بدون فلسفة العلم عماء).

المرأة تلد فمن ظنون (البداهة) أنها المسؤولة عن نوع الجنين (ذكر أو أنثى) ليأتي البحث العلمي فينفي هذه (البداهة)، (البدهيات) مقترنة في معظمها بوهم السببية في التتابع، ولهذا تجد (البعض) يخلطون ما بين (نفي هيوم) للسببية و(نفي الغزالي) للسببية، فمنطلقات التجريبية تختلف جذرياً عن منطلقات (الغنوصية الدينية) في نفي السببية، لتأتي (النسبية) فتطعن أكثر وأكثر في كبرياء (البداهة العقلية)، ويبقى السؤال العلمي لا علاقة له بأي سؤال شعري/بلاغي، ولهذا فأطروحات صدر الدين الشيرازي العرفانية ومثلها الغزالي هي أطروحات لا علاقة لها بالسؤال العلمي (التقني) واستدماجها بأي شكل من الأشكال داخل فضاء العلم الحديث، ليس إلا هروبا من ضرورات (القطيعة المعرفية) التي تستلزم حركة ترجمة ثرية وعطش معرفي قوي للنجاح في تحقيق هذه القطيعة.

(القطيعة المعرفية) تعني إدراك الفارق ما بين سؤال (الفردانية) في العصر الحديث، وسؤال (الجماعة) قبل قرون، فالفردانية مصطلح حداثي يحاول البعض أن يقوم بتبيئته من خلال إشارات دينية لا علاقة لها (بالمفهوم الحديث للفردانية) كاستقلال فكري واجتماعي منبت عن فضاء (الجماعة)، ليبقى مقبولا ومحترما وفق منطلقات (مدنية وليست صوفية)، حتى وإن اتفقت في ظاهرها (المدني القانوني) مع معطيات اللغة الصوفية في التعالي (اللغوي) على الاختلافات العرقية والدينية، دون تمكين (مادي/واقعي) لهذه الدلالات المتعالية، كما فعلت (الحداثة) ونجحت في ذلك عبر قوانينها المدنية (أكثر) من غيرها.

(القطيعة المعرفية) تعني أن (نتضلع بالتراث العربي) ثم نخرج (منه) إلى (زمننا) الحالي بمشاكلنا العصرية، باعتباره (تاريخنا)، لا أن نخرج (عليه) باعتباره (عارنا)، فخروجنا من بيوت آبائنا الطينية وتحويلها إلى متاحف، والانتقال إلى سكن جديد يعرف معنى (الكهرباء) والتكييف، هو (قطيعة معرفية) تعني الخروج من (الحصن القديم) وتحويله إلى متحف وتاريخ يقبل النقد كما يقبل الإطراء، ولكنها تختلف كلياً عن من يخرج (على) بيت آبائه القديم فيهدمه وينثر حجارته بكل عته، ليبني على أنقاضه آخر ما أنتجته الحضارة الإنسانية من مواد بناء.

عندما تجد في إحدى غرف البيت القديم (سلسلة خاصة برقاب العبيد) فمارس مع هذه السلسلة (القطيعة المعرفية) بشعور إنساني يكره (استعباد البشر) لا بممانعة ضد (القطيعة المعرفية) عبر مراوغة لغوية تظهر التفاخر بأجداد امتلكوا عبيداً، أكثر من فخرها بإنسانيتها الحديثة التي أنهت احتمالات الرق في أسواق النخاسة لكل البشرية بمجرد سقوط الإقطاع هنا وهناك.

(القطيعة المعرفية) ضرورة لاحترام (تكوين العقل الحديث) فبدون هذه القطيعة ستختبئ (الخرافة) في ثياب العلم، فالقطيعة المعرفية تعني الخروج (من) الآبائية، وليس الخروج (عليها) فالخروج (منها) يعني (النقد العلمي لها وإثراءها بالنقاش بهدف تفكيكها بنيوياً وإعادتها لمكوناتها بشكل علمي (موضوعي) لا علاقة له بمئات الأبحاث الأكاديمية العلموية التي تقرر نتائج (ذاتية) مقررة سلفاً قبل البدء في البحث، ومثله في التشويه الخروج على التراث بإنتاج خطاب تعبوي (تدميري) للتراث والثقافة والهوية.

أول طريق (القطيعة المعرفية) إعادة حسن الظن بهذه القطيعة كضرورة للتفكير العلمي، ومحاولات (يوسف زيدان) وأشباهه كثير، في اعتراض هذه القطيعة من خلال تمرير المعرفة عبر تخريجات طويلة تؤكد على أننا لم نقرأ التراث كما يجب (وهذا صحيح ولا خلاف عليه)، وتبرئة التراث من (الفهم السقيم لأمثال داعش) فهذا (تدليس) يشبه تدليس (الإخوان المسلمين) في الترافع عن منهجهم الأيديولوجي (الشمولي) عندما يدورون في حلقة مفرغة تحول بينهم وبين النقد الرصين لمنهجهم، فيغسلون أخطاءهم طيلة قرن بمقولة (العيب ليس في المنهج بل في طريقة تطبيقه وفهمه)، ولهذا فداعش والقاعدة أخذتا من التراث ما يناسبهما كما أخذ يوسف زيدان من التراث ما يناسبه، (صراع سرديات تراثية)، فالتراث في حد ذاته ليس مشكلة أبداً، فالأهم من التراث هو كيف نفكر فيه (هل نفكر فيه بما يجعلنا سجناء العقل الأسطوري الذي يستسيغ أن تكون الأرض مرتكزة على قرن ثور، أم نفكر فيه بقطيعة معرفية تجعلنا نخرج منه أم نخرج عليه، حتى كتب داعش يجب أن نحفظها كشاهد على أخطائنا في فتراتنا التاريخية، كذاكرة تشبه ذاكرة الأمم المتحضرة عندما حفظت تراث (عصورها المظلمة إبان قتل الساحرات) لتعرضه في متاحفها كشاهد على (رحلة تطور العقل الحديث) ولم ترتبك من ترجمة كتب اليونان والرومان والصين والهند والعرب، لتعصر تاريخ العقل البشري فتتجنب سقطاته الحضارية وعجزه في تكوين ذاته (كفرد مستقل) دون الحاجة لتقرير (الفردانية) بالتراث، فكيف إذا ربطناه بالنص المقدس، مما يعيد العقل للمربع الأول في (الحاكمية) التي بدأها الخوارج بحجة تحكيم (المصحف) ونفاها الإمام علي بحجة (كلام بين دفتي كتاب لا يستخرج ما فيه إلا الرجال/عقول الرجال) لنستجر من جديد صراع السرديات التاريخية ما بين سنة وشيعة قديماً، وصولاً لصراع السرديات الجديد على (ابن تيمية) مثلاً بين البغدادي ويوسف زيدان في عصرنا هذا.