زخم من الأفكار تتواتر، تتزاحم وتتدافع من كل صوب، لا هي جلية الوضوح حتى تستجلي أمرها ولا هي غامضة متسترة يستعصي عليك فهمها.

هي تلك الأحاديث التي تقذفك يمينا وشمالا، ولا تدري إن كانت حقيقة أم إيهاما.

الأمر هكذا لست تجد له سببا أو تفسيرا، فيرهقك كم الأسئلة المتكررة وتعجز في الحكم عن جدواها ومدى معقوليتها فتقول: أحقا بالإجابة عنها أكون قد خبرت معنى الوجود وأدركته؟

هي من قبيل، لماذا أنت هكذا؟ أهذا فهمك للحياة؟ لماذا اختزلت الحياة في زواج وعمل ومستقبل تخاف ضياعه؟ أليس هناك ما هو أرقى وأنبل وأعمق؟، ألست ربما قد أضعت كثيراً، وأنت تحاول ألا تفوت شيئا من ذلك القبيل؟.

يأتي على المرء حين من الزمن يكون فيه أبعد ما يكون عن ذاته وتضيع أبعاده فلا يعرف لها طريقا.

كثيرا ما يتذمر من تسرب السنوات وتقدم العمر، لا عمل ولا استقرار ولا زواج ولا سفر.

ومن هنا تأتي الأفكار الهدامة والنظرة المحدودة للأشياء، فترى مثلا الأحداث قد امتهنوا التشاؤم وركبوا البحر خلسة وغامروا بحياتهم وجعلوا من المخدرات ملجأ به يهربون - في اعتقادهم وفهمهم - من الواقع وإرهاصاته التي غذتها الضغوطات الاجتماعية والعائلية، لا بد أن تتزوج، أن تجد لك مسكنا، أن تجد لك عملا لائقا، أن وأن وألف أن.

لكن لن تجد من يقول لهم كونوا أنتم كما أنتم، حققوا ما تريدون أنتم تحقيقه، تعلموا أن للحياة أوجها لا حصر لها ولا تعداد، اجعلوا لحياتكم معنى وأطلقوا العنان لعقلكم المعجز فتدركوا حدود السماء وتحلقوا عاليا بعيدا عن كل طموح مادي زائل بزوالكم أو ربما قبل رحيلكم حتى.

ثم تتجلى الحقيقة شفافة في لحظة صفاء نادرة غير منظرة فيكتشف فيها كيانا آخر كان يرافقه دون أن يظهر للأضواء، رافضا ما أنت عليه.

فيدعوك أول ما يدعوك، لأن ترفض، أن تثور، أن تتمرد، أن تقول لا بصوت عال دون خوف ولا خشية، أن تتعلم المواجهة واختيار ما تريده أنت لا ما يريده المجتمع.

إن تركيز الإنسان على تحقيق الشيء إلى أن يجعل منه غاية، فيكون بذلك قد حكم على فنائه.

يتوهم الإنسان أنه حقق هدفه من الحياة حين يحقق ما ذكرناه سابقا. وهو لعمري قد ضيّق الخناق عليه وطوّق نفسه بطوق الخضوع والخنوع ليعيش سجين اختياراته المحضة.

ثم يتضح أمامه للحظة واحدة أنه على الطريق الخطأ وما عليه إلا تصويب المسار وتعديل النظر للوجود في إطلاقه وكليته. فيكون من المحظوظين إذا ما طفح منسوب الوعي عنده وهو ما يزال يافعا فيسمح له الزمن أن يقوم إعوجاج ما كان معوجا.

إن حصر الوجود في بعض الأهداف هو حكم مسبق بالإعدام والوجود المعدم، لذا وجب النظر مليا وفهم الوجود بالكلية.

إن لم تنجح في الدراسة فأنت لم تكن فاشلا ولن ينتفي وجودك وما زلت قادرا على أن تكون خيرا، على أهمية النجاح.

إن لم تتزوج فلن تنتفي صفة الإنسان فيك ولم تنتقص منك مقاصد الوجود، على ما للزواج من مقاصد سامية.

وإذا كنت قد حزت ما قد سلف فلن يعطيك ذلك بعدا آخر غير ما كنت قد حققته على الخصوص لا على الإطلاق.

إن فترة وجودك محدودة في الوقت وأنت من تجعلها لا محدودة في الزمن، فالوقت كما هو معلوم، دقيق، والزمن كما هو معلوم، مطلق.

إن الإنسان الذي قال علمت قد جهل، والذي قال وصلت فإنه قد تأخر، ومن قال وصلت القمة فالدرك الأسفل ينتظره.

أما من قال ما زلت أسعى وما زلت أتعلم وما زلت أرقى فقد فهم الوجود وخبر كنهه وتجاوز حدود الأزمنة وعاش خارج الأطر. وحلق في الكون دون قيود ولا حدود بها يستحيل الوجود جحيما أو أرقا و"روتينا" قتلا.

إن جوهر الإنسان قمة في الإعجاز، لذلك كلما اقتربت أكثر تجلت لك أشياء وحقائق لم تكن تدركها أو أنك كنت تنفيها إطلاقا وترفض قول آمن بها وتبني جدواها. وما على المرء إلا أن يمتلك القدرة والآليات للغوص عميقا في بحر الذات واكتشاف كنوزها المغمورة.

سيكون في اعتقادي من الضروري أن يضع الإنسان له منهجا يتبعه ويكون هو على تمام الإدراك بتغير المنهج كلما كان ذلك ضروريا.

ستدرك مع الزمن أن أحلام الطفولة وطموح الشباب قابلة للتطويع والتطوير. إما بالمضي قدما فيها أو بالإعراض عنها بعد أن تنتفي جدواها.

كثيرا ما نصنع لأنفسنا سجنا من الأفكار والأحداث ولا نرى أنفسنا خارج أسوارها. فتحجب عنا حقائق أخرى ووجودا آخر لم نكن نؤمن بوجوده إلا بعد أن تسلقنا جدران المعتقدات وتجاوزنا ما تبلد من الأفكار، حينها فقط يكون الأفق قد بان وفتح باب الإقبال على الحياة على مصراعيه فتعيد اكتشاف نفسك وذاتك وتستنير الغرف المظلمة وثنايا الإدراك عندك.