جنوب شرق مدينة أبها، وعلى بعد نحو 43 كلم منها، تتربع قرية تمنية على قمة جبل يرتفع 3000 متر عن سطح البحر، وتعد من أقدم قرى منطقة عسير، ومن أجمل متنزهاتها على الإطلاق، لكن الأمر لا يقف على ما تقدمه الطبيعة، وما تصنعه الجغرافيا، ففي هذه القرية حكاية خاصة عنوانها «الفزعة والتعاضد الاجتماعي» تركت أثرها على كل بيت من بيوت القرية القديمة، وعلى الأخص قرية آل ينفع التراثية التي بنيت بيوتها بسواعد أهل القرية مجتمعين، وبطين وطراز معماري قديم لافتين.

تتربع قرية آل ينفع التراثية في أحد سفوح الجبال متوسطة تمنية، وتنتشر فيها بيوت مختلفة الأحجام، يصل ارتفاع بعضها إلى 5 أدوار.

التكاتف والجماعة

يقول علي بن سعيد آل شاعبة، إن أهل تمنية كانوا يشيدون المنازل والقصور لبعضهم بعضا من منطلق يد الله مع الجماعة في تكاتف وفزعة وأخوة، وكان ذلك في القرن الثالث عشر الهجري.

وكانت عملية البناء، تبدأ بتحديد مساحة وموقع مكان البيت من قبل وجهاء وأعيان القبيلة، وعددهم 6 أشخاص، يمثل كل منهم جماعته، وبعد تحديد عدد أفراد أسرة الراغب في البناء يتم تحديد مساحة المكان، ثم يستنفر صاحب الشأن عشيرته الأقربين لجمع الأحجار بجميع الأحجام، والأتربة من الجبال بكمية كافية تفي بإنجاز الدور الأول للبيت من الحجارة، ثم بعد ذلك تبدأ عملية جلب التراب الزراعي المميز بتماسكه من مزارع مخصصة ومتميزة بقوة تربتها، لتستخدم في ربط الأحجار فيما بينها وبناء ما يطلق عليه مداميك البيت لاحقا.

ويضيف «في الغالب يكون الدور الأول مبنيا بالكامل من الحجارة معزز بـ»اللِبن» أو بالعامية «الخلب» ويتكون من عدد من الغرف، تكون سكنا للمواشي ومستودعات لطعامها.

في نفس المرحلة يتم التنسيق مع صانع الأبواب والنوافذ لأخذ مقاسات الأبواب والنوافذ للدور الأول، وعادة ما يستخدم الخشب من شجر العرعر والطلح المتوفر في الأطوار والغابات المحمية من القبيلة، كما يتم التنسيق مع صانع الحديد لتجهيز مشابك ألواح الأبواب والشبابيك، كي يكون العمل متناسقا بين الحرفيين.

بعد الانتهاء من بناء هيكل الدور الأول يتم اطلاع الممثلين الستة من الجماعة لتحديد عدد معادل وسهوم وأحلاس الدور الأول.

أدوات من الطبيعة

المعادل هو الحامل الرئيس لسقف الدور، أما السهوم فهي التي تلي المعدل صغرا في الحجم وتنشر على مسافات متساوية بين 20 و 40 سم عن بعضها بعضا فوق المعدل.

والأحلاس هي الأصغر حجما، وتكون شبيهة بالعصي، وترصف جانب بعضها بعضا فوق المعادل ثم تغطى بالخصف المصنوع من سعف النخل أو القصب، يليه الخلب الذي سبق تخميره، وإضافة القصب ودوسه بالمواشي لأيام متتالية حتى ينضج تماما، ويتم اختباره في مختبر العمال بوضعه أمام مصب مياه الآبار فإن لم ينفلق فهو جاهز للاستخدام في البناء، ولحف الأسقف الخارجية.

جمال إضافي

أضفت بيوت تمنية التراثية جمالاً إضافياً على القرية التي تعانق السحاب ويلفها الضباب صباح مساء، وهي تشرف على منحدرات سهول تهامة، وتوصف بأنها صديقة الأمطار في كل الفصول، وتشمل تضاريسها وتكوينها الصخري على شكل الصحن المستدير تحيط به سلسلة من الجبال من جميع الجهات، وهي ذات طبيعة فاتنة تمتد في جوانبها أغوار ذات تربة خصبة زراعية من الدرجة الأولى تتميز بزراعة البن والكادي والفواكه الموسمية، والخضروات الورقية بشتى أنواعها، وكذلك التين والفراولة والمشمش والخوخ والعنب والجوافة والقمح والذرة والشعير، وغيرها من المحاصيل الزراعية.

وتشتهر تمنية بالماء العذب، حيث تحتوي على نحو 140 بئرا استفاد منها الأهالي على مر العصور التي مضت، وكثير منها لها مواقع سقيا مجانية تنتشر على جوانب الطرق.

تصميم هندسي فريد

بين ابن شاعبة أن بيت الطين غالبا ما يكون الدور الثاني، ويضم غرف ضيافات، فيما يكون الدور الثالث والملحق لغرف النوم، كما يُترك نصف الملحق مكشوفا (بلكونة)، للاستطلاع والمراقبة والتواصل عن طريقها مع من في المزارع، كما يستخدم لنشر وتجفيف اللحوم المملحة والمدخنة، خصوصا لحوم الأضاحي حيث لم يكن هناك كهرباء وثلاجات لحفظ الأطعمة في ذلك الوقت.

وتتم تغطية المدماك من الخارج والداخل والأرضيات بـ»روبة» أو «ترويبة» مكونة من الطين والماء حتى تثقل ثم تستخدم، كما يتم كذلك التغطية على درج البيت ولكن بمادة تسمى الصهارة.

ومادة الصهارة سوداء اللون تأخذ من عروق سوداء معينة في الأرض، وفي أماكن محددة ومعروفة، بعد ذلك يتم تغطية الجدران الداخلية بمادة «القصة»، وهي مادة بيضاء اللون موجودة في جبال تمنية يتم جلبها وتخميرها مع إضافة الملح إليها، ثم نشرها من الداخل على الجدران الداخلية فتكون ناصعة البياض ثم يغطى الجدار بارتفاع متر من القاع بعصارة البرسيم ولونها أخضر غامق.

فن القط

بعد الانتهاء من البناء يتم التعاقد مع فنانة شعبية ترسم «القط» حيث ترسم من 5 إلى 7 خطوط تسمى قطوط بألوان مختلفة ومسافات متساوية ترسم فوق ما تم عمله من عصارة البرسيم، كما يتم دهان المعادل بمادة القطران المستخرج من عصارة خشب الزيتون المتوفر في غابات المنطقة.

بناء المداميك

يشير ابن شاعبة إلى أنه بعد الانتهاء من الدور الأول يتم تكليف أمهر المختصين ببناء المداميك المصنوعة من التراب المدهوك والممزوج بالعشب، وتأخذ نفس المقاسات في الدور الأول، حيث يتم بناؤها في الدور الثاني، ويكون كل مدماك بارتفاع 40 سم، ويفصل بين المدماك والآخر ما يعرف بالنطف الذي يتم جلبه من الجبال، ويكون حجرا مسطحا ويتم تهذيبه وصناعة شكله بواسطة الباني خبير البناء، ومن ثم رصفه متجاورا فوق كل مدماك لتحقيق هدفين الأول حماية المدماك من عوامل التعرية، والثاني إضفاء منظر جمالي للقصر من الخارج، ويتم صباح اليوم الثاني ضرب المدماك بقطعة خشبية من جميع الجهات للتأكد من التصاقه ببعضه بعضا، وعدم وجود تشققات في المدماك، وهكذا تنجز المداميك الخارجية والداخلية للمبنى، ويتم إنجاز ما مجموعه سبعة إلى تسعة مداميك لكل دور، وتحديد أعداد الخشب المطلوب من الغابات لكل دور من قبل المختصين الستة من كبار الجماعة.