«البيوت أسرار».. مقالة يحوم حولها اليوم كثير من الشكوك، إن لم تصل مرحلة اليقين بأن «البيوت لم تعد أسرارا».

على حبل وسائل التواصل الاجتماعي، بمختلف تطبيقاتها، ينشر كثيرون غسيلهم دون خجل، يكسرون الجدران المحيطة حتى بغرفهم الخاصة، ويبيحون للآخرين أن يطلوا عليها بعيونهم وآذانهم، وأن يتدخلوا فيها تأييداً ورفضا وشفقة وتعاطفا، وربما أيضا بغضا وكرها.

باتت مسائل كانت تنطوي على كثير من الخصوصية بما فيها الطلاق وأسبابه والدوافع إليه، والخلافات الزوجية والعائلية وغيرها، أمرا مشاعاً يتيحه كثير من المشاهير للعامة، ليكون حديث المجالس، وموضوع المسامرات، حتى صار مصطلح «الخصوصية» نفسه على محك تغيّر مفهومه.

وإذا كان الأمر في البداية يقتصر على الشخصيات العامة مثل السياسيين والفنانين وغيرهم، فإنه تطور في مراحل لاحقة فلحق حتى العامة بهذا الركب، وبات بعضهم يهتم بتصوير فنجان قهوته قبل شربه، وبوجبته في المطعم أو البيت قبل تناولها، وصار بعضهم يصور طريقه إلى البقالة التي يرتادها كل يوم، ويعضهم يكشف خططه لهذا المساء، حتى تحول الأمر إلى ما يشبه الهوس الجماعي بالشهرة، حتى لو كان ثمنها فضح الأسرار الخاصة، ونشر قضايا شديدة الخصوصية، كما يفعل بعض المشاهير الذي يتصورون أنهم يزيدون متابعيهم عبر هذا السلوك.

هدم الأسوار

لم تعد «الخصوصية» و«الحياة الشخصية» تعني كثيرين في هذا الوقت، فمنذ انطلاقة القرن الحالي بكل الانفتاح التقني الذي يشهده تخلى كثيرون عن التمسك بهذين المصطلحين اللذين باتا شيئاً من الماضي، فهم ينشرون كل شيء، وعن كل شيء، بعدما كان الجميع يحافظ على خصوصياته حتى مع المقربين، بات التخلي عنها، وحتى انعدامها ظاهرة جلية لا يمكن نكرانها.

وإذا كان تخلي العامة عن خصوصياتها لا يلفت أنظار كثيرين، فإن إقدام المشاهير على مثل هذه الخطوة يضعهم تحت مجهر التركيز أكثر، ويجعلهم حديث الجميع، وتوضح الأستاذ المساعد بكلية الاتصال والإعلام في جامعة الملك عبدالعزيز، الدكتورة غيداء الجويسر «طالما بات الأمر مثار الانتقاد، فهذا يعني أنه كسر «تابو» ما، بمعنى أنه خالف المتعارف علیه والمقبول ضمن المجتمع، ومن هنا تنتشر الأخبار والفضائح انتشار النار في الهشیم، ووسائل التواصل الاجتماعي تصل ملایین البیوت عبر فئات المجتمع كافة، من صغیرها إلى كبيرها، مما یجعلها مادة للحدیث، هذا بشكل عام، فما بالنا بالمشاهیر الذین یطلون عبر هذه المنصات لیلا ونهارا یعرضون تفاصیل حیاتهم الیومیة للجمیع ویشركونهم فيها».

وتضيف «ما يحدث هو تولیفة من الفضول وحب الاستطلاع ومشاركة الآخرین، هذا ما یجعل المجالس وقروبات الواتساب والوسوم التویتریة تضج بأخبار هؤلاء المشاهير، بما فيها الأخبار شديدة الخصوصية».

وتتابع «ما تقدمه هذه الفئة یخلق جدلا ما بین قیم المجتمع والتغیرات التي یمر بها، وكذلك تثير وتعزز الاختلافات بین الأجیال المختلفة، فأضحت مادة ثریة للحدیث والاختلاف والتحلیل، وكذلك استعراض «المعرفة»، فلان یعرف فلانا، قال إنه كان یعمل كذا وتزوج فلانة، وفلانة تطلقت من علان ونحوه».

وتكمل «تتمتع منصات التواصل بقدرة ضخمة على الانتشار، وعلى مدار الساعة، ولدیها قدرة لا يمكن إنكارها على تغییر المبادئ لكل الأجیال والفئات، ولا یوجد عاقل ینكر مدى تأثیرها، وإن كانت درجة تأثیرها تختلف، لكن التأثیر حتمي مهما بلغت درجته، هنا یأتي دور الأسرة، والمنصات التعلیمیة والثقافیة وكل ناشر للمعرفة، في صنع متلقٍ واعٍ».

هل حياتهم ناجحة

يحذر كثيرون من تأثير المشاهير على الآخرين، وعلى الأخص صغار السن، حيث يقتدي بهم الناشئة متأثرين بالأجواء التي يشيعونها حول أنفسهم، ويوضح مستشار الحياة الأسرية والتربية والتدريب الدكتور محمد عطية العلي أنه «في سبيل الحد من هذا التأثير السلبي، ينبغي على الوالدين بناء علاقة وطيدة بينهم وبين أبنائهم، تقوم على الثقة والحوار والاتفاق المسبق على الأمور المسموحة والممنوعة».

ويضيف «ينبغي على السرة أن تطرح السؤال وأن تجيب عنه: هل حياة هؤلاء المشاهير الأسرية ناجحة فعلا؟».

ويؤكد على ضرورة بناء الثقة بين الآباء والأبناء بعد تربية الأبناء على القيم السلمية وتوضيح الحدود التي لا يجب تجاوزها، ويقول «احترام الآباء لأفكار الأبناء، ومنحهم مساحة التعبير عما يجول في خاطرهم، تجعل الآباء المرجعية الأساسية والأولى لهم، وبالتالي تخفف انسياق الأبناء خلف المشاهير وحياتهم».

موضوع قديم

يرى كثيرون أن موضوع الخصوصية صار قديما بعض الشيء، ويرون أنه بالنسبة لمستخدمي مواقع التواصل صار الأمر «بقايا خصوصية»، بعد أن كانت المجتمعات العربية متحفظة بشدة، وحريصة تماما على وضع حدود جلية بين الخاص والعام، حيث يسعى هؤلاء المستخدمون لنشر كل ما يخصهم إما حبا للظهور أو للتباهي، أو حتى نتيجة اللامبالاة التي كرسها نشاطهم الروتيني أو الفراغ الذي يعانونه.

تعمد إثارة الضجة

يتعمد بعض المشاهير إثارة الضجيج والبلبلة حولهم، وقد يصل الأمر إلى حدود افتعال مشاكل في الحياة الشخصية لمجرد الظهور، ويعلق استشاري الطب النفسي الدكتور وليد السحيباني على الأمر بقوله «منصات التواصل الخاصة بالمشاهير صارت كأنها قنوات تلفزيونية تعتمد بشكل رئيس على عدد المشاهدين وعلى وجود الإثارة، فنجد أن بعض القنوات يعمد إلى التطرق لنقطة جدلية لجذب عدد أكبر من الأشخاص، والطريقة نفسها يتبعها بعض مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي، فهذه المنصات هي الأكثر مشاهدة، ويفوق عدد متابعيها عدد مشاهدي التلفاز».

وتابع «القضايا الأسرية من أكثر الأمور خصوصية، وهي التي من المفترض ألا تظهر إلى العلن، لكن ما يحدث هنا أننا نجد أن المشهور يتعمد إظهارها، حتى أنها أحيانا لا تكون حقيقية، وقد يصل الأمر ببعضهم إلى حد الاتفاق مع أحد أفراد عائلته للظهور بمظهر المتخاصمين بما يحقق لهما تواجدا أكثر في الساحة، وبالتالي شهرة أعم، ومردودا ماليا أكبر، وبقاء أطول في أذهان الناس بصورة مستمرة ولو على حساب قيم أخرى».

ولا يربط السحيباني هذه التصرفات بحتمية وجود مشكلة نفسية لدى صاحب التصرف، إذ يقول «ليس لهذا علاقة بالنواحي النفسية إلا من ناحية حب الظهور بغض النظر عن كيفيته، وذلك لأن الغرض الرئيس لبعض هؤلاء المشاهير هو حصد أكبر عدد من المتابعين، وكيفية جذبهم وهو لا يمتلك محتوى فعليا؟، حينها يقوم بالظهور بشكل غير لائق أو كاسر للعادات والتقاليد ويقوم بعرض حياته وحياة أسرته أحيانا للعامة».

وأشار السحيباني إلى أن البعض منهم في سبيل التواجد يحتمل التنمر وتعريض نفسه وأسرته ـ التي قد لا تشكل أولوية عند بعضهم ـ للشتم، فقط للوصول إلى غايته وهي المتابعون الكثر، وبالتالي المردود المالي الكبير.

تبعات قانونية

تساءل كثيرون عما إذا كان ما يفعله بعض المشاهير من نشر أدق الخصوصيات على الملأ، سواء لجذب المتابعين أو تأليب واستفزاز المجتمع وإثارة حفيظته، يقع تحت طائلة مساءلة القانون، ويقول المحامي، المستشار القانوني عاصم الملا «جميع ما يقوم به المشاهير من استعراض أو تشهير أو تحدث عن الحياة الشخصية أو إظهار لزوجاتهم بكامل زينتهن، أو استعطاف الناس لبذل الأموال للتبرع أو للشراء منه، أو الإعلانات عن منتجات أو مواد ومحلات، مخالفة للشرع والنظام لعدة أسباب:

أولاً: من الناحية الشرعية، لقول الله تعالى (واجتنبوا قول الزور) وقوله سبحانه (وكنا نخوض مع الخائضين) وقوله تعالى (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين).

ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب، ويتحرى الكذب حتى يُكتَب عند الله كذّابا)، وقوله صلى الله عليه وسلم (ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم - إلا حصائدُ ألسنتهم) وقوله صلى الله عليه وسلم (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان).

وثانيا: نظاماً لا يجوز لأي شخص أن يستغل برامج السوشل ميديا لإظهار حياته الخاصة على العلن مع زوجته، أو أن يكذب ويغش ليعلن عن نفسه أو عن أولاده أو منتجاته ومنتجات الغير لما يسببه ذلك من ضرر على الناس والمجتمع».

ويضيف «يستغل بعضهم أطفالهم الصغار القصر الذين لا أهلية شرعية لهم ليزيدوا شهرتهم على حسابهم، مستغلين سلطتهم كآباء أو أمهات على هؤلاء الصغار، وهو أمر مجرم بموجب نظام حماية الطفل من الإيذاء، كذلك ونظام الحماية من الإيذاء يشمل كل من أُلحق به الضرر سواء معنويا أو ماديا من أشخاص أو أطفال له تحت ولايته».

ويتابع «كما جرم نظام مكافحة جرائم المعلوماتية كل من استخدم البرامج الإلكترونية بقصد الإضرار بآخرين أو التشهير بهم، ونص نظام المطبوعات والنشر أنه لا يجوز استخدام الدعاية والإعلان إلا بموجب ترخيص من وزارة الثقافة، كما أن دعاية المشاهير لأماكن أو مطاعم أو منتجات لو حدث فيها ضرر على صحة الناس مثل التسمم أو رداءة المنتج فإنهم يعدون شركاء ومساهمين بالجريمة عن طريق التحريض».

وتمنى الملا أن تصدر الدولة نظاما خاصا يضبط مسائل الدعاية والإعلان وضرورة إصدار تراخيص من الجهات المختصة لكل مشهور يرغب في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للدعاية أو تجميع الناس أو التحدث عن حياته الشخصية بشكل يومي، وتقنين ذلك، وإيقاع العقوبة والغرامة على كل من يخالف النظام، داعياً إلى الاستعانة بهيئة مراقبة المحتوى الإلكتروني لوضع نقاط مشروع هذا النظام.

مطالبة بالأبناء

يشدد المحامي نواف النباتي، على أنه من حق أحد الوالدين (الطرف غير المشهور) أن يرفع قضية لمنع استغلال الطرف الآخر في العلاقة الزوجية (المشهور) من استغلال الأبناء الصغار القاصرين عبر إظهارهم على مواقع التواصل الاجتماعي، خوفاً عليهم من تبعات الشهرة، وقال: من حق أي من الوالدين رفع قضية لأخذ الأبناء خوفا عليهم من تعرضهم للتنمر عبر التعليقات أو مضايقتهم أثناء خروجهم في الأماكن العامة، ويرجع الفصل في هذه الدعوى إلى تقدير القاضي.

أشكال التخلي عن الخصوصية

تصوير ونشر كل ما يتعلق بالممارسات اليومية

نشر قضايا خاصة جدا مثل الطلاق وأسبابه

نشر الخلافات الزوجية والعائلية للعامة

فضح الأسرار الخاصة

عوامل انتشار قضايا المشاهير

خلقها جدلا بين قيم المجتمع والتغيرات التي يمر بها

تثير وتعزز الاختلافات بين الأجيالالمختلفة

تمتع منصات التواصل بقدرة ضخمة على الانتشار

قدرة هذه الوسائل على التأثير بالأخرين

مبررات الإقبال على متابعة القضايا الخصوصية

اكتساب بعض المعلومات لادعاء المعرفة

الفضول

كسرها التابو والتقاليد والمتعارف عليه

حب الاستطلاع