لطالما كانت القيادة تمتلك وعلى الدوام الدور الأبرز في تحديد اتجاهات وسياسات العمل وبالنتيجة المخرجات على المستوى الإستراتيجي، ولطالما أيضاً مثّلت القيادة المظهر الأكثر تأثيراً لقيمة القوة سواء في معناها المثالي المجرد، أو في صورتها التنفيذية التي تلامس وتتفاعل مع الواقع اليومي المعاش داخل المؤسسة الحكومية أو الخاصة.

والقيادة الناجحة ليست فقط تلك التي تصل بفلسفتها الإدارية إلى المرحلة التي تصبح فيها قادرة على تسيير الأعمال بنجاح لا ينقطع، ولكنها أيضاً تلك القيادة التي تؤسس لفريق عمل قادر على إدارة ذلك النجاح حتى من دون وجود القيادة في مكان العمل، فالقائد الحقيقي هو ذلك المبدع الذي يستطيع أن يبني فريق عمل قيادي وليس فريق عمل تنفيذي.

ويُعد التدريب أحد أهم ركائز هذا النوع من الإعداد، ومع توافر أدوات ترقية إمكانات الموظفين اليوم أكثر من أي وقت مضى من خلال برامج التدريب المهني وتطوير القدرات المهنية، إلا أن حجر الزاوية الأهم في بناء منظومة قيادية شاملة في المؤسسة يكمن في حسن اختيار الموظفين المؤهلين ذهنياً، ومعرفياً، وممارسةً، ليكونوا في الصف الأول مؤسساتياً، وهذا ما يضع مسؤولية كبيرة على عاتق القيادة التي تحتاج إلى الاستثمار في موظفين يمتلكون مواطن القوة إدارياً وقيادياً.

والقوة في تعريفاتها الإدارية الكلاسيكية تعني إنتاج أداء شبه مثالي دون وقوع أخطاء أو أزمات، ولا يمكن اكتشاف مواطن القوة في موظف ما من دون مراجعة سجل الإنجازات السابقة، وقد لا يمتلك الموظف سجلاً حافلاً بالمنجزات، ومع ذلك فإن السلوك الإداري لموظف ما قد ينبئ بكثير عن منجزات محتملة. ولعلنا جميعاً التقينا في أماكن العمل بذلك الخريج الجامعي حديث التخرج الذي لم يمارس العمل الإداري في سابق عهده، ومع ذلك لربما لاحظنا النشاط، والحكمة، وسرعة البديهة، والقدرة على حل المشكلات بهدوء وذكاء لدى ذلك الموظف، وفي المقابل لعلنا التقينا بموظف يمتلك ذات الظروف ولكنه لم يكن يمتلك الحد الأدنى من قدرات الموظف الأول.

ومن هنا فإن التقييم الذي نرصد من خلاله مواطن القوة لدى موظف ما إنما هو في حقيقته يخضع لكثير من المؤثرات الشخصية والانطباعات التي تتعلق بشكل مباشر بالخبرة العملية المحددة في مدة زمنية ما والتي يرصدها القائد بنفسه، بعيداً عن مؤثرات السجلات الوظيفية المكتوبة، أو ما شابه ذلك من أدوات تلعب دوراً في إعطاء حكم مبدئي على قدرات الموظف لكنها لا تغني عن وضع الموظف قيد الاختبار على أرض الواقع.

ولعل القيادة تواجه في كثير من الأحيان خطر خسارة موظف قيادي عندما يكون ذلك الموظف غير مؤمن بقدراته أو غير قادر على اكتشاف مواطن قوته، وفي مثل هذه الحالات فإن القيادة الناجحة تستطيع تقديم يد العون لذلك الموظف الذي ربما يحتاج فقط إلى نفض الغبار عن تلك الصورة المشوشة التي يمتلكها عن نفسه لأسباب قد تكون اجتماعية أو تربوية أو نفسية، ومن هنا يصبح هذا الجهد ذا قيمة لأنه يكسب المؤسسة موظفاً قيادياً جديداً.

ولا يمكننا الحديث عن الجهود الذي تبذلها القيادات في اكتشاف مواطن القوة لدى الموظفين من دون أن نؤكد على حتمية الاتصال اليومي المباشر بين تلك القيادات وبين موظفيهم، فلا يمكن للقيادة أن تدرك حقيقة الصورة ومعطياتها، أو تفهم أين يقع موظفوها على مستوى القدرات القيادية أو الإدارية على أقل تقدير من دون أن يكون لدى كل طرف الفرصة الكاملة والحقيقية لاستكشاف الآخر أولاً على المستوى الإنساني وثانياً على المستوى الوظيفي، فليس ثمة أفضل من التواصل اليومي الإيجابي لبناء منظومة عمل ناجحة يستطيع القادة من خلالها أن يرسموا للمؤسسة ليس فقط خططها وأهدافها الإستراتيجية، وإنما أيضاً ليرسموا لها مستقبلها القيادي والريادي، وهذا لا يتم من دون دعم القادة الجدد المحتملين وتقديم يد العون لهم، والتجاوز عن الأخطاء التي لابد من حدوثها، واعتبار العنصر البشري الداخلي ركيزة أولى على صعيد تطوير المؤسسة وتدعيم مستقبلها وسمعتها محلياً وخارجياً.