دائما ما كانت الكتابة شكلا تعبيريا عن وجود الإنسان منذ أن وطأت قدماه الأرض، وأخذت الكتابة بدورها طرائق وأشكالا متعددة لعل أشهرها تلك التي نقشت حروفها ورموزها على جدران الكهوف والمغارات أو تلك التي كانت أسفارا غصت بها رفوف المكتبات والمتاحف، فكانت تقف شاهدا على العصر وتوثق البعد التاريخي الموغل في القدم لفعل الكتابة.

ليست الغاية من إعادة ما قد قيل عن دور الكتابة في تواصل العنصر البشري ولا عن حقائق المعنى الملازمة لكل مكتوب، فهي في اعتقادي قد أخذت من الحيز الكثير من قبل ومن بعد، بل الغاية من هذا النص هو تبيان ما لأمر الكتابة من تأثير على الحالة السيكولوجية للإنسان بما تحمله من آثار نفسية وربما هي شكل من أشكال العزاء الروحي وإعادة الاعتبار لذاتيته، يعني ذلك، هل لا بد دائما من موضوع وحقل دلالي يرافق كل مخطوط؟ ألا يكفي الحروف شرف حمل الاضطرابات والتقلبات المزاجية للمرء؟ هل بالإمكان أن نكتب دون أن نقول شيئا؟ فيستحيل بذلك فعل الكتابة شكلا لا غاية من ورائه سوى الحروف ويكون كل القول في الرسم والزخرف.

حين يصل الإنسان الى حالة تنتفي فيها ذاته وكينونته وتتداخل المفاهيم أو تتغير لديه ويتأثر بالتغيرات الكونية الحاصلة، حيث تتداخل الموضوعات وتتقاطع ويصبح من العسير عليه التموقع. هي كل تلك التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي صار نسق تطورها جنونيا، فتصعب عليه المسايرة ويتوه في ثنايا اللاستقرار والتغير المستمر، ليتحول من إنسان يؤثر في الواقع ويغيره إلى أداة يشكلها الزمن ويطوعها دون هوادة مثلما شكلت الفتاة الصغيرة علب الصلصال في رواية "صلصال أمريكي" للكاتب ناجي الخشناوي.

فالكثير من تتملكهم رغبة جامحة في الكتابة أو بالأحرى رغبة في الافراغ، إثر ذلك الشعور، بما في الإفراغ من قوة وتدافع فيلجؤون للقلم ويلتمسون منه أن يكون طوق النجاة مما هم فيه من أرق وضياع فيكون كالذي يفرغ حمولة من المواد الصلبة في مصبها المخصص، يريد أحدهم فقط أن يتخلص من كل ذلك الكم الهائل من الزخم الفكري والازدحام دون أن يتمثل مسبقا الصور والتجليات.

ثم يكتشف أخيرا أنه أمام مهمة صعبة جداً، فأمر الكتابة يكاد يكون أعسر من المخاض، فولادة نص أشبه بالولادة البيولوجية للكائنات، لكن الألم الحقيقي حين يدرك أنه تجاه حمل كاذب لا ترجى من ورائه حياة ما.. هي كذلك الكتابة حينما تصبح عصية التحقيق أو أن تكون لا هدف من ورائها سوى فعل الكتابة لا غير. هنا يكون الشكل مفرغا دون محتوى حيث يحتار القارئ بين السطور باحثا عن المعنى مستجديا الطرائق والأساليب علها تخبره عما وراء النص من إيحاء أو تصريح، ليس هناك إذا نصا جديداً يولد بقدر ما هو شتات ذاته وثانيا عقله الباطن، حيث يكون شكل النص هو غاية الغايات دون اكتراث لما يحمله من معان محتملة قد يحملها النص وقد لا يحملها.

لست هنا أمام علم أو فلسفة جديدة بقدر ما هي "سكيزوفرينيا" يصعب تماما عن كشف مأتاها، تارة يجد المرء نفسه وتارة يبحث عنها، وبين الوجد والبحث تضيع ملامحه وربما يهلك دونها.

صار الإنسان إذاً عاجزاً عن المواجهة والنظر في المرآة، صار الظل يؤذيه وانعكاس المرآة يرهبه، ربما هي النتيجة الحتمية ريثما ندرك ذواتنا وكنهنا، لنرى كما لم نر من قبل أنفسنا مكشوفة دون غطاء، فيتملكنا الخوف من الحقيقة إلى أن يصل بنا الأمر إلى كسر المرآة أو المشي نهاراً في ظل شيء ما والشمس مشرقة هرباً من ظلنا.

لن تشعر بالبرد ما لم تسر عاريا دون ثياب تحميك ولن يتسنى لك أن تشعر حرقة الشمس إن مشيت تحت الظلال، ربما تستشعر لهيبها أو ترى تنقل سرابها من بعيد لكنك لن تعرف حرقتها، فالسجين لا يفرق بين الشتاء أو الصيف لولا أنهما قد تمثلتا جيدا في مخيلته قبل الظلام، فإدراكه للفصول لم يأت هكذا بالفطرة أو دون تمثل بل كان ذلك من خلال ما رسم سابقا في ذهنه.

إن أردت أن تلج إلى الأعماق وتغوص في كينونة الأشياء، وإن رغبت في فك غموض المفاهيم، عليك أولا أن تحمل نفسك على العناء وأن تعلمها كيف تتمثل الأفكار والمفاهيم خارج الأطر وخارج القوالب الجاهزة وذلك بأن تصنع لها أطرا وقوالب خاصة بها.

ولا أرى أفضل من قلم جاف يترك آثاره على ورقة بيضاء فيكون الإطار جديدا غير الأطر التي ألفناها ويكون فعل الكتابة وجودا في حد ذاته، ستكون الورقة نفسها بحرا صافيا ويكون القلم مركبا يحمل اختلاجاتك وأفكارك ويرسم أبعاد نفسك.

ربما يكون هذا فهما آخر لظاهرة "الإسهال السردي" الذي جفت أقلام النقاد والمهتمين بالشأن الأدبي عموما من التطرق إليه، حيث أغرقت المكتبات بسيل من الحبر وانتصبت الكتب والمؤلفات في كل مكان، وكثيرا ما أعادوا ذلك للفقر المعرفي للكتاب والمؤلفين وعدم امتلاكهم القدرة على إنتاج المعنى فكانت نصوصهم بذلك "أعجاز نخل خاوية " ولم تشفع لهم إنتاجاتهم المتعددة من النقد والانتقاد، إلا أنه لا بد من إعادة النظر في هكذا مبحث وتثمين ما يكتب ولو افتقر ذلك للمضمون المتعاهد عليه والبحث عن مضامين أخرى لا تتجاوز حدود الشكل والحروف. فيكون التأسيس لمنهج دلالي مستحدث والانطلاق من قانون الثنائيات القائم على جدلية السلب والإيجاب وذلك إذا ما اعتبرنا موازنة لا خير مطلق ولا شر مطلق، إذ لكل شيء من ذلك نصيب.

ربما لن يستسيغ البعض أو الكل هكذا طرح وسيعتبر هذا النص مفرغا ودون عمود فقري يستند إليه ككل النصوص، فليكن الأمر كذلك فكل نص حمال للنصوص.