العقل موجود كي يتجاوز بالإنسان قدره كأحد الثدييات التي (تدب) على الأرض، وكل أيديولوجيا دينية أو دنيوية تقيد هذا العقل، أو تشعره بأنه سجين فيجب التخلص منها، ويمكن التمييز بين الأيديولوجيا والعلم من خلال شيء واحد، الأيديولوجيا غرفة مغلقة بلا جدران، تزين جدرانها بصور النوافذ والأبواب، تقص جناحي العقل (الإرادة، والتفكير) فحدود ما تسمح به أن تجعل الإنسان يفكر في (ماذا يريد أن يصبح؟) لكنها حذره جداً جداً فيما لو تعمق في التفكير أكثر ليسأل: (ماذا يريد أن يريد؟) لأن هذا يقتضي مساءلة ما اعتاده من أدلوجة شربها منذ نعومة أظفاره، فمنهم من يتجاوز القنطرة بميلاد عقل مفكر، ومنهم من يكتفي بعقل العادة والمألوف، الذي يغرق في شبر ماء من التعصب تجاه الاختلاف والمختلف، فإن رأى النظام يحول بينه وبين التنفيس عن تعصبه ضد الآخر المختلف اتجه بالاكتئاب تجاه الذات.

العقل موجود كي نطير فعلاً بالمعنى الحرفي للكلمة، فمن كان يتخيل أن يطير أكثر من مائة شخص في طائرة لآلاف الكيلومترات دون توقف من قارة إلى قارة مما تعجز عنه كل الحيوانات الطائرة، بينما العقل الإيديولوجي يقول لك باسم الدين المسيحي (الصاعقة سلاح الرب يضرب به العُصَاة، ولهذا لا يجوز التفكير في صناعة مانعة للصواعق، وعندما ضربت الصاعقة أجراس الكنائس أكثر من مرة، استخدمت الكنيسة ما كانت تحرم التفكير فيه عدا أن تجيز استخدامه).

العقل موجود لندرك ضعفنا فنحن بلا فرو يدفئنا، بلا معدة وأمعاء قوية تساعدنا على أكل النيء من لحوم وبقوليات، بلا أنياب ولا مخالب ندفع بها عن أنفسنا، نحن بالعقل فقط نتفوق على بقية الثدييات، وليس أي عقل، فبعض مستويات العقول هي أقرب لعقل القطيع من الحيوانات من عقل الإنسان، فردود أفعاله غريزية جمعية ليست مستقلة، بينما العقل المكتمل عقل فرداني يدرك عيوب الاندماج الاجتماعي كما يدرك امتيازاتها، فالاندماج الاجتماعي يريح العقل من عناء التفاصيل، (الدفء الاجتماعي) مخدر للعقل، فبإمكان أي شخص أن يصبح طبيباً أو ضابطاً أو مهندساً أو معلماً أو ما شئت من مهن مسؤولة، ولكنها جميعاً لن تغير في (العقل الجمعي) الخاص بالفرد أي شيء، لتجد الطبيب يقتل زوجته لأنها ركبت مع سائق أجرة بغير إذنه، والأمثلة لا تنتهي.

العقل للطيران، وليس للمشي، ومن يقنعك أن العقل أقصى أهدافه المشي على الأرض فهو صاحب أيديولوجيا يتذرع بالواقعية وامتيازات الثبات على الأرض، أما العقل فيتجاوز بك قانون الجاذبية لتشعر بقوة الريح وامتياز الطيران الثابت فوق الأرض، فالعقل أجنحة للطيران تتجاوز ثقافة المشي على قدمين هما (التقليد والعادة) فالناس التي تسير وفق (العقل الجمعي) تسيطر عليها ثقافة المشي على (التقليد والعادة)، فإن قطعت (قدم التقليد) رأيته ينط بقدم واحدة اسمها (العادة) والعكس، عاجزاً في كل أحواله عن الطيران، فهو بلا أجنحة (بلا عقل فرداني).

يبقى السؤال الأخير: هل (العقل الجمعي) هو توصيف دقيق لمخرج حقيقي من مخرجات التفكير الإنساني، أم أن مصطلح (العقل الجمعي) من مواضعات علم الاجتماع التي تقيس المسائل وفق معطيات المجموع التي تعنيها، وتركت الفرد وفق مصطلحات (علم النفس) ولهذا فالعقل الجمعي ليس (عقلاً) بالمعنى الفكري المستقل.

العقل أجنحة للطيران، بالعقل نطير رغم أنف ما اعتادته العقول التقليدية عن الجاذبية، وكذلك هي الحضارة عبر التاريخ من بلاد الرافدين قبل ما يزيد على خمسة آلاف عام حتى زمننا هذا وبومة منيرفا تطير من أرض إلى أرض، تمكث مئات السنين في بقعة جغرافية ثم ترتحل إلى أخرى، لقد وصل بومة منيرفا كلمات فرانسيس بيكون عن الأوهام الأربعة (الكهف، القبيلة، السوق، المسرح) فتأكدت أن هناك من يملك أجنحة للطيران، ثم سمعت بديكارت وهو يعلن الكوجيتو، لكنها رفرفت بجناحيها باتجاه أوروبا تماماً عندما ناداها كانط صراحة وقال لكل فرد هناك (تجرأ على استخدام عقلك) عندها استقرت بومة منيرفا ولا زالت حتى يخبو العقل الأوروبي بالغنوصية التي ظهرت في فلتات لسان هايدغر وأشباهه، ولا زلنا ننتظر، متى تنتقل إلى من يقدر العقل كأجنحة للطيران.