انقسام الناس إلى طوائف وفئات لا بد أن يتسبب في خلافات ومنازعات ومشاحنات نتيجة تناقض المصالح بين الطبقات الاجتماعية، والتي تشتد وتضعف بين حين وآخر وينشأ عنها الصراع الطبقي، والذي يُعتبر من أهم العوامل فيما يحدث من تغيرات اجتماعية وانعطافات تاريخية في حياة أي مجتمع إنساني، والأساس في التصنيف الطبقي يعود إلى التفاوت الاقتصادي بين طبقات المجتمع، وتصنيف الأفراد فيه بناء على الطريقة التي يكسب بها الأفراد عيشهم وتتحكم في أسلوب حياتهم وطريقة تفكيرهم.

والطبقية تنشأ كحاجة ضرورية لمجموعة من الأفراد في المجتمع، بينها عوامل نفسية ومادية مشتركة وخصائص وسمات سلوكية تُوحدهم وتجعل الانسجام والتآلف بينهم قائما على وحدة المصالح والأهداف المشتركة، وإذا كان التوصيف بالطبقية قد ارتبط في الأصل بالاقتصاد في التصنيف الطبقي، فقد تعداه في العصر الحديث إلى مجالات مُتعددة وأصبحت الطبقية تستغل موارد الاقتصاد وقودا لها للوصول إلى أهدافها، سواء كانت سياسية أو دينية أو اجتماعية، وتنشأ داخل الطبقية الواحدة طبقات مُتعددة تعتمد على التفاوت في الدرجة والترتيب والأداء.

وقد ظهر لكل طبقة من الطبقات الاجتماعية والدينية والسياسية والعلمية ألقاب لفظية في لغة التخاطب، تُميز الأفراد بعضهم عن بعض وتُرتب درجاتهم من أعلى إلى أسفل في حياتهم المعيشية والمهنية والدينية، وأصبح اللفظ الطبقي مصدر قوة للأفراد وحاجة ضرورية للصراع الطبقي داخل المجتمع، والذي يكتسي صبغة أيدلوجية أو قبلية أو دينية أو مهنية، وأصبحت الألفاظ الطبقية غاية في حد ذاتها وطموحا للوصول إلى شرفية استحقاقها، والعمل على خلق هوية تُميزها.

فالطبقية في المجتمعات البشرية أمر لا يمكن إنكاره، ولكن الطبقية التي تقوم على أساس العصبية العرقية والقبلية والمرجعية الدينية والمذهبية والدخل المعيشي والتفاوت الاقتصادي والانتماء الحزبي والسياسي والجغرافي والدرجة في التعليم والصحة والترفيه؛ فإنها طبقية جوفاء لا قيم ولا مبادئ ولا إنسانية فيها، وهي تسعى جاهدة إما بجهلها أو بوعي أهدافها إلى تنمية الكراهية والأنانية والاستبداد وتقوية الصراع بين فئات المجتمع، ولا تقبل أن تكون الطبقية قائمة على التناغم والتكامل والتنافس والتعاون والمصلحة المشتركة بين أفراد المجتمع المحلي والإنساني، وأن الطبقية هي تفاوت وتوازن هدفها النهوض بالإنسان.

من هنا استطاعت الطبقية بأنواعها كافة - مع الأسف - توظيف اللغة واستخداماتها كبوابة للتخاطب لدخول عالم طبقيتها، وتأصيل دورها ووظيفتها في كل المجالات الدينية والاجتماعية والعلمية، فأصبح لرجل الدين والعلم والاقتصاد والاجتماع والسياسة العديد من ألقاب التبجيل والتقديس والتي لا يحق للناس أن تذكر اسمه إلا بها، وأن تجريده من ألفاظ التبجيل التي تسبق اسمه فيه تقليل من شأنه وتسطيح لمكانته الطبقية وإنكار لدوره.

لقد وصف القرآن الكريم التفاوت بين الناس ﴿ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ ، وهذا التفاوت مبني على القدرة ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ ،وأن ناتج التفاوت هي مخرجات سلوكية ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾، فالمجتمع عندما تكثر فيه ألفاظ التبجيل في لغة التخاطب والتعامل، هو مجتمع مُتخم بالطبقية والاستعلاء وغارق في وحلها، واللغة مُصداق على أصل الطبقية المتجذرة في أعماقه وتدلل على خلاف ما يدعيه من نفيها.