ولدت في مكة المكرمة في حارة القشاشية التي لم يعد لها وجود الآن، فقد أزيلت بكاملها لصالح توسعة الحرم، ولهذا فإنني حين أزور مكة أردد هذا البيت:

أنكرتها بعد أعوام مضين لها لا الدار دارا ولا الجيران جيرانا

وهذا البيت من شواهد النحو إذ ينصب الاسمان بعد لا المتكررة، على أنه يجوز أيضا نصب الاسم الأول ورفع الاسم الثاني

لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال

ويجوز رفع الاسمين: لا رجل في الدار ولا امرأة.

كما أردد أيضا هذين البيتين:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلى نحن كنا أهلها فأبادنـا صروف الليالي والجدود العواثر

بل إني حين أبحث عن شخص لأسأله عن عنوان ما يرد علي برطانة أجنبية مما يذكرني ببيت المتنبي:

ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان

على أنني وإلى حد ما أستطيع أن أرسم خريطة لشارعنا والشوارع المحيطة به، إذ إنني قضيت ثمانية عشر عاما من عهود الصبا واليفاعة فيها، كما أستطيع أن أذكر أسماء بعض العائلات التي كانت تسكن بجوارنا، ومنهم بيت شلهوب والسجيني والفطاني وعبد المجيد (كان منهم أمين عبد المجيد الذي كان موظفا في الخطوط السعودية، وكان يكتب عمودا في صحيفة المدينة، وقد توفي الآن، وما أكثر الذين غالهم الموت من رفاق الصبا، وأخشى أن تكون هذه الذكريات نعيا لنفسي وللرفاق الذين ماتوا، ولم يبق من أسرة عبد المجيد هذه سوى عبد الإله)، وكان من ضمن جيراننا أيضا بيت زينى متوكل ومنهم أحمد زيني أحد أصحاب شركة آبار وزيني، ومنهم أيضا بيت الأشعري وأخص منهم الصديق حسن أشعري، أما ابن عمه حسين الذي كان صديقا لي وكان يعمل في السفارة في مصر، فقد مات بالسرطان قبل عدة سنين، ومن أولاد حارتنا بيت الآشي ومنهم الشاعر عبد الوهاب أشي، وكانت تربطني به صداقة وزمالة في المدرسة ونادي الوحدة بأحمد أشي، ولكنه برع في اللعبة وأصبح لاعبا أساسيا في الفريق، أما أنا فكنت ألعب في التمارين ولم أمثل الفريق في أية مباراة رسمية، وقد تأسست الوحدة قبل أن أنضم إليها أنا وأحمد آشي، وكان ذلك إذا لم تخني الذاكرة في عام 1948، وكان رئيس النادي أحمد قاروت ونائبه حسين بوقس رحمهما الله، ورحم الله أحمد أشي الذي مات قبل شهور، وقد فرقت الأيام بيننا بعد أن تخرجنا من الجامعة، إذ ذهب إلى المنطقة الشرقية وعاش فيها، وعشت أنا في الرياض فترة وفي الدمام لمدة عامين، ثم هاجرت إلى باريس لمدة عشرة أعوام، ثم رجعت إلى جدة، ولو أنني كما قلت أعيش جزءا من العام في جدة. ومن عجائب التوافقات أن ابن أخي سلمان خزندار تزوج واحدة من جيل حفيداته، وكان معظم أعضاء الوحدة من القشاشية، أما مدربنا فكان اسمه يوسف خضري وهو من الشبيكة، ولا زلت أذكر أسماء بعض لاعبي الفريق، وكان من أبرزهم حمزة بصنوي وهو من حارة الشامية وعبد العزيز بن حسان وهو من حارة جرول وكنا نسميه الجرولي، ومن اللاعبين أيضا عبدالله كعكي الذي تولى فيما بعد إدارة رعاية الشباب في المنطقة الغربية، ولا أدري هل هو الآن حي يرجى أم ميت فيرثى، فقد انقطعت علاقتي الآن بالوحدة، بعد أن كنت عضو شرف لعدة سنين، ومن اللاعبين أيضا حمزة هاشم وأحمد باز، ولكن هذا انضم إلى النادي الأهلي أو أهلي مكة الذي أسسه جماعة من أهل الشامية، الذين لم يرضوا بسيطرة أبناء القشاشية على الوحدة، وكان على رأسهم هلال شيت، وقد تحالف هذا النادي مع عدو الوحدة التقليدي الاتحاد، والاتحاد تأسس في نفس العام الذي تأسس فيه نادي الوحدة وربما بعد ذلك، وكنا نلعب في المسفلة، وكان أغلبنا يتواعد بعد العصر عند بيت الآشي، ومنه نذهب معا مشيا إلى المسفلة التي كانت تبعد عن القشاشية بثلاثة كيلومترات، وكنا ننتهي من اللعب عند أذان المغرب، وبعد الصلاة نجلس في مقهى قريب من الملعب، وبعد نصف ساعة نعود إلى القشاشية.

2010*

* كاتب سعودي 1935 - 2015