في لقاء (المساء مع قصواء) مع الشاعر موسى حوامده تحدث عن رأيه الصريح في الشعر الموزون والمقفى وأنه تخلص من هذا، فهو يكتب دون خطط من الأسلاف، ثم أشار إلى التفعيلة أيضاً وأنها استنزفت تماماً، ثم تهكم على بحر الوافر وأن ما نسبته خمسة وسبعين بالمائة من القصائد لا تخرج عن هذا البحر، وأن قوالب الذائقة العمومية جامدة لا تستسيغ إلا ما اعتادت عليه من هذه البحور.... إلخ.

هذا موجز قد يكون مخلا لما دار بهذا اللقاء (الممتع والثري) فهو يقودنا إلى شاعر قوي في الدفاع عن أدواته، خصوصاً وأنه يعيش أفقاً أعلى من القافية التي أشار لها (قاسم حداد) في شذراته عندما قال: (القافية، أحياناً.... حين يتذكر الشاعر بوجوب إنهاء السطر.... لحظتها يكون الشعر قد انتهى بالفعل) ولهذا كثير من القصائد العمودية ينتهي منها الشعر قبل أن تبدأ.

ما يعنينا هنا ليس الحديث عن ما أشار إليه عبدالكبير الميناوي عن ما دشنته (الناقدة سوزان برنار بالأطروحة التي أنجزتها في باريس تحت عنوان «قصيدة النثر من بودلير إلى الوقت الراهن» عام 1958 وظل كتابها هو المرجع الأساس رغم أنه لم يترجم إلى العربية إلا عام 1993 ترجمة جزئية وصدر في دار المأمون ببغداد، وترجم ترجمة كاملة عام 1998 في دار «شرقيات» من قبل راوية صادق، وقبل هذه الترجمة، كان أدونيس في بداية الستينات قد عمد إلى اختزال الكتاب وسلخ الخصائص التي كشفت عنها سوزان برنار لهذه القصيدة، وتبعه في ذلك أنسي الحاج في مقدمة «لن» ليظل النقاش حول هذه القصيدة «مرتهناً إلى تلخيصات كل من أدونيس وأنسي الحاج، إلى درجة أن أدونيس سيؤمم ــ لعشرين عاما ــ مصطلحات سوزان برنار حول الشعر، الكشف، الرؤية، الهدم، الشاعر النبي، لتشكل مرتكزات خطابه الكتابي» كما نقرأ على لسان رفعت سلام في مقدمة ترجمة كتاب «قصيدة النثر»، فكل هذا الذي أورده عبدالكبير الميناوي ليس مجالنا، بل سنبحث في إمكانية (الشعر الحر) لدى الشعراء وفق معيار (الفردانية) كوعي يومي وليس كنظرية، فهذا الفرق الفكري (الفردانية) قد يخرج بعض التقليديين ويدخلهم إلى ساحة الشعر الحداثي وإن كتبوا بشكل عمودي وهم قليل، وكذلك يوجد شعراء حداثيون، ومن خلال هذا الفرق الفكري يخرجون من دائرة الشعر الحداثي ويدخلون إلى ساحة الشعر التقليدي. صراع الشعراء من خلال الالتزام ببحور الشعر أو التخلي عنها، هو صراع شكلاني يعيشه مجموعة ممن يسمون أنفسهم (تقليديون وحداثيون)، فالشاعر التقليدي هو ابن الموضوعات الاجتماعية (التقليدية)، هو لسان (العقل الجمعي) ومع الصحوة التي صنعت هذا العقل الجمعي لم تعد تجد فرقاً بين قصيدة شعرية أو موعظة شعبوية، بينما الشاعر الحداثي (الحقيقي) هو ابن القلق الوجودي من أقصى دلالات التلسكوب بعداً إلى أقصى دلالات الميكروسكوب قرباً، ليصل إلى (فردانيته) الخاصة، فعينه الشعرية ترى حتى في الحذاء القديم ما رآه (فان جوخ) من تعبير مأساوي حقيقي عن (الكدح البشري) مع بقاء التأويل مفتوحاً للأسئلة والاحتمالات، ولهذا فالشاعر التقليدي هو (سليل المجتمع) مهما وجدته بين الكتب، والشاعر الحداثي هو (سليل العزلة) مهما وجدته بين الحشود.

من يكتب (الشعر الحر) بلا وزن ولا قافية، وهو لم يصل إلى مفهوم (الفردانية) في سلوكه وحياته، فهو (تقليدي) ينتج (خواطر اجتماعية) يصر على تسميتها شعرا، ومن يكتب (الشعر العمودي) في (زمننا هذا) وهو لم يصل إلى مفهوم (الفردانية) في سلوكه وحياته، فهو (تقليدي) ينتج (نظما تربويا) يصر على تسميته شعرا.

الشعراء الذين وصلوا بدواخلهم لمعنى (الفردانية) بشكل حقيقي سيفاجئك أنهم يكتبون بشكل عمودي أو حر ولا يشعرون بهذه الفواصل الحادة والعنيفة بين الطريقتين، بل يعتبرون (الشعر الحر) حفيداً أصيلاً وامتداداً طبيعياً لأجداد يركبون البعير في أسفارهم فأنشأوا الحداء بما يتناسب وواقعهم المادي مع خبب الإبل، وجاء بعدهم حفيد يملك وعيه الحداثي باعتباره مجرد (فرد) يحمل (رقم تذكرة) لمقعد في طائرة (الإيرباص) وفي أذنه سماعه تتنقل بين مقطوعة عربية للسنباطي ومقطوعة غربية لموزارت، ثم يلومون هذا الحفيد لماذا ترك مقامات الهمذاني والحريري واتجه لكتب جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، وترك على مستوى الشعر ديوان المتنبي واتجه لديوان الماغوط وترجمات رامبو وبودلير؟! ولا يلام من ترك البعير في سفره، وقطع تذكرة على متن (الإيرباص)، فكيف نلوم من ترك أبو العتاهية وقرأ للماغوط، أو ترك المتنبي مع الإخشيدي وقرأ محمود درويش مع خبز أمه.

من يكتب من خلال إلزامات وذائقة ومألوف (العقل الجمعي) فلن يخرج عن تساؤل (هل غادر الشعراء من متردم؟) فالشعراء (الفردانيون) على المستوى الفلسفي لا مشاحة بينهم في طريقة كتابة الشعر، بل المشاحة بين (العقل الجمعي التقليدي/‏القطيعي) ويمثله (شعرائيون) كثر، (والعقل الفرداني) ويمثله شعراء قليل ممن تمثلوا (الإنسانية) في مفرداتهم لدرجة تسمو على تقسيمات (الفخر والغزل والمدح والهجاء.. إلخ) من تقسيمات تقليدية تتكئ في تنوعها على (العقل الجمعي) بينما الفردانية تسمو على هذه التقسيمات الخاصة (بالعقل الجمعي للقبيلة) باتجاه الإمعان في تذرير الذات بتواضع لذيذ مع الحياة بكل تفاصيلها، فكافور الإخشيدي لن يكون مادة شعرية تثقل كاهل الشاعر الحداثي بالتملق مادحاً أو بالكراهية ذامَّاً، بل ستستغرقه قهوة أمه وخبز أمه ولمسة أمه ليستعيد طفولته، ولهذا من الصادم للبعض أن تقول له: الشعر الحداثي في مجازه أصدق من الشعر القديم لأنه ينطلق من الذات الإنسانية وهمومها الفردية، وبقدر التصاقها باليومي والإنساني فينا بقدر شاعريتها وصدقها، بينما الشعر التقليدي (سواءً كان عموديا أو حرا) مشغول بتصورات خارجة عن الذات تهيمن عليها وتنطلق وفق معطياتها وتخاف الخروج منها وعليها ولهذا ما دامت كل هذه المحاذير تحيط به فمن الطبيعي أن يتجه للكذب فيصدق عليه كشعر تقليدي (أعذب الشعر أكذبه).

الأدعياء لن يختفوا سواء جاءوا على شكل (خاطرة) تنسب نفسها للشعر الحر، أو جا}وا على شكل (نظم) ينسب نفسه للشعر العمودي، والأدعياء إما (محترمون) يتركون الشعر ويتحولون إلى (نقاد) تاركين الشعر لأهله، أو غير محترمين ما زالوا يزاحمون الشعراء الحقيقيين في كل فعالية بوجه من فولاذ.

لا تقولوا يوجد (فردانية) في التراث العربي، وإن وجد فهي الشذرات والبذور النادرة التي تؤكد القاعدة، ولسنا بحاجة للتعلل بضرورة تبيئة مصطلح (الفردانية)، فقد شعر به كل إنسان أعاد السؤال الوجودي على نفسه (من أين؟ وإلى أين؟ وكيف ولماذا؟)، وفق مفاهيم الأربعة القرون الماضية للإنسانية (وعقلها الحديث)، فلقد أنتجت هذه القرون الأربعة على مستوى الإنسانية قصائد وروايات، موسيقى وأغانٍ، مفاهيم وفلسفات، وصولاً لمعنى الوطن والمواطنين، وبدلاً من محاولة الفهم والاستيعاب اشترى بعضنا (الحداثة في ميزان الإسلام) ووزعه بالمجان كسادية اجتماعية تجاه المختلف عنه، فلما اكتشف معنى (المواطنة) في (وطن) وليس (وثن)، عرف أن ما فعله بالمجان كان (مازوخية) تجاه (ذاته العاقلة)، قبل أن تكون سادية ضد الآخر، وأنه حتى هذه اللحظة يهرب للتوبة المزيفة بحيل التأويل والتبرير خوفاً من ألم القطيعة المعرفية الصادقة.