يسخر الشاعر عبدالرحمن الأبنودي في كثير من قصائده من المثقف المنعزل، الذي يعرف أسماء الفلاسفة والكتاب الأوروبيين جميعا، ولكنه يضل الطريق في شوارع القاهرة ولا يعرف أسماءها، أما الكاتب الساخر محمود السعدني فقد رسم صورة مرحة للمثقف الذي يملأ فمه بالمصطلحات الضخمة التي يسميها السعدني «الحنجوري»، دون أن تكون لها دلالة أو وظيفة فهذه المصطلحات مثل ريشة الطاووس للزينة الفارغة فقط.

والمثقف هنا هو شيء آخر غير المهندس والطبيب أو الوزير والمحافظ (فكلهم مثقفون بطبيعة الحال)، إنما المقصود هو المثقف المرتبط بالإبداع الفني والأدبي والفكري عموما، وهذا النوع من المثقفين هو الذي جرت العادة على أن يكون في أزمة وأن يتحدث عن أزمته بفخر واعتزاز وهل لا يستطيع أن يعيش إلا في أزمة ما؟ لقد كانت صورة الفنان التقليدية تقترب من صورة كائن غريب الأطوار في عاداته وشكله وملبسه، يقف على حافة الجنون، فالشاعر العبقري في المخيلة الدارجة لا بد أن يكون بوهيميا والفنون جنون، فالإبداع الفني عادة يحلق فوق أرض الواقع والمتطلبات العملية وحسابات الربح والخسارة، ويطير في أجواء من الخيال الطليق والحرية التي لا تقف عند حد، وكأن الفنان محكوم عليه بالانعزال عن الناس والعالم.

ولكن ما علاقة تلك الصورة المتخيلة لمثقف الإبداع بحقيقة ذلك المثقف؟ لنأخذ بعض المثقفين السينمائيين مثلا فمن يستطيع القول إن عادل إمام أو فاتن حمامة أو محمود عبدالعزيز منعزلون عن الجماهير أو حسابات الواقع؟ ولنأخذ مؤلفي السيناريو للسينما فبعضهم مثل وحيد حامد أو بشير الديك يتمتعون بجماهيرية كبيرة، وربما اشتغلوا بالإنتاج والتمويل، وكذلك الحال في التلفزيون فإن «أسامة أنور عكاشة» تحقق مسلسلاته نجاحا ساحقا وهي بعيدة كل البعد عن الابتذال والبوهيمية، أما الشعراء من أمثال الأبنودي وسيد حجاب حينما يكون التلفزيون أو أداء مطرب مشهور أو مجموعة غنائية وسيلتهم إلى الجمهور، فإنهم يلقون استجابة واسعة، ونحن نتذكر أشعار أحمد فؤاد نجم وفؤاد قاعود من شعراء العامية وشرائطهم التي كانت ممنوعة أيام السبعينيات في مصر رسميا، ومع ذلك فقد كانت واسعة الانتشار جدا لا في مصر وحدها بل في العالم العربي بأكمله.

بل إن نجيب محفوظ قد أصبح حتى قبل الجائزة نجما ساطعا نتيجة للإعداد السينمائي والإذاعي والتلفزيوني لكثير من رواياته، وما من تكاسب بين شهوة أو رواج أو تأثير نجيب محفوظ حينما يخاطب الناس عن طريق المخرج السينمائي، وكذلك الحال مع توزيع دواوين الأبنودي وسيد حجاب وأحمد فؤاد نجم وفؤاد قاعود، حينما تأخذ الأشعار شكل الكلمة المكتوبة، وقد ينطبق ذلك على كتب أسامة أنور عكاشة ومسرحيات لينين الرملي المطبوعة، بل إن مسرحية مدرسة المشاغبين من اقتباس علي سالم التي رآها الملايين لم تلق نسخها المطبوعة في كتاب أي اهتمام. ونصل من ذلك إلى أن المثقفين حينما يمارسون الكتابة، أي حينما يأخذ إنتاجهم شكل الكلمة المكتوبة تجعل الأمية الأبجدية التي تطبق على ملايين الناس في مصر من الصعوبة العثور على جمهور قارئ واسع لهم، فقد ترجع العزلة إلى وسيلة الاتصال بين المبدع والمتلقي، فبعض هذه الوسائل أكثر حظاً بما لا يقاس من بعضها الآخر، فالتليفزيون والسينما أكثر جماهيرية من الكتاب دون أدنى شك، ولكن الكتب نفسها ليست متساوية في الرواج، فالكلمة المكتوبة حينما تتحول إلى وسيلة للتسلية مثل اللب والفول السوداني والفشار، قد تلقى جمهورا متسكعا عريضا مثل بعض الروايات العاطفية التافهة وبعض روايات الجريمة والإثارة الحسية.

ونتذكر ما لقيته من مذكرات سيدة ادعت علاقتها ببعض الأجهزة السرية من رواج، لأن المذكرات كانت قد امتلأت بالفضائح حول بعض نجوم المجتمع والفن، وزاد الطلب غير الثقافي على المذكرات حتى وصلت طبعاتها إلى عدد نادر لا تعرفه الكتب عادة، وليس معنى ذلك أن الكلمة المكتوبة الجادة قد حلت عليها اللعنة، فعدد القراء المحتملين في مصر على الرغم من الأمية يصل إلى الملايين، وإن يكن توزيع أعلى الكتب مبيعا لا يتجاوز بضعة آلاف. وينبغي أن يضاف إلى مشكلة «وسيلة الاتصال» مشكلة «الوسيط الأدبي»، فالرواية مثلا أكثر جماهيرية من «النقد الأدبي» أو «الشعر» وقد اختطلت مسألة وسيلة الاتصال بمسألة الشكل الفني بطرق متعددة.

فإن بعض الكتاب الممتازين مثل توفيق الحكيم أو يوسف إدريس -رحمهما الله- قد أحاطت بهم الهالات الإعلامية في الصحافة والتلفزيون وأصبحوا شخصيات جماهيرية يتحدث الناس عن أخبارهم، ولكن تلك الهالة الإعلامية كانت أكبر من التأثير المباشر لأدبهم وكتبهم.

والآن نجد بعض كتاب وشعراء ونقاد الحداثة تلمع صورهم وأحاديثهم في الجرائد والمجلات وفي التلفزيون أحيانا، وهم يفجرون قضايا ساخنة شديدة التجريد والانعزال، ولكن أسماءهم أصبحت معروفة على نطاق أوسع كثيرا من النطاق الذي يعرف أفراده قصائدهم.

ويبرز هنا سؤال بديهي هل عزلة المثقفين هي عزلة عن قضايا الإنسانية والوطن والعصر؟ بعض المثقفين وبخاصة في الشعر ترجع عزلتهم إلى ذلك، فهم مغتربون إلى أقصى مدى عن العالم حولهم ويفخرون بذلك ويغرقون في ملاحقة حالات وجدانية شديدة الخصوصية والاستثنائية.

كما أن أشكال التعبير عندهم ملتوية شديدة الوعورة والتأنق الشكلي، دون وظيفة حقيقية، إنهم يحكمون على أنفسهم بالعزلة والاختناق فدون تلبية الحاجات الجمالية للمجتمع، بل دون اكتشاف تلك الحاجات وبلورتها وتنميتها في الدائرة الفنية المحددة، يخفق الشاعر في أن يجعل وجوده مبررا، ويتحول إلى طفيلي هامشي. ولكن أكثر مبدعي القصة والشعر والنقد عموما، تؤرقهم في كتاباتهم قضايا الشخصية الإنسانية والاحتياجات الجمالية، على نحو شديد الحدة والوضوح وبدرجات متفاوتة من التوفيق بطبيعة الحال، وهم لا يفتقدون الرغبة في الوصول إلى جمهورهم الحقيقي، والتعبير عنه، بل يضعون ذلك هدفا أمامهم.